يعرّف سحر "التخييل" في قاموس الرقاة على أنه "عمل وتأثير يسعى الساحر من خلاله إلى قلب الحقائق، فيرى المسحور الشيء على غير حقيقته"، وهذا النوع من السحر يعتمد على الاستعانة بالأرواح الأرضية، وهم شياطين "الجن" فيتصل الساحر بهم من خلال الرقى والدخن والكفر بالله، وعندما يتحقق الاتصال تحصل الاستعانة ثم الإعانة!.

والمفهوم السابق للسحر هو السائد بين الناس للأسف الشديد، ويوجب البعض الإيمان بهذا المفهوم، ومن يعترض على ذلك، فهو ينكر أحد الثوابت والحقائق الموجودة في القرآن الكريم، وهذا عامل مهم شجّع البعض على ممارسة السحر والشعوذة، وشجّع أيضاً على تصديق الناس للدجالين والمخادعين بحيث أصبحوا فريسة سهلة لهم، وفريسة للخرافات والأساطير.

قبل أسابيع، نشرت بعض الصحف خبراً عن قيام "ثلاث نساء بسرقة أحد مكاتب السياحة والسفر، والاستيلاء على مبالغ تتجاوز (11) ألف ريال دون مقاومة من الموظف، إذ تبين أن هؤلاء النساء استخدمن سحر التخييل في عملية السرقة"، وهذا الخبر في الحقيقة ليس الأول من نوعه، بل هناك مقاطع فيديو عديدة تظهر قيام بعض النسوة في أحد الأسواق بسرقة (الكاشير) بنفس الطريقة!.

والغريب في هذا الموضوع أن غالبية الناس تناقلوا الخبر بالتصديق المطلق ودون أية اعتراضات أو شكوك، لأن ما حدث كان بسبب الاستعانة بالجن والشياطين من خلال هؤلاء الساحرات!، ولا أحد يسأل لماذا كان العامل المشترك في جميع هذه القضايا هن من النساء؟!

ربما السر يكمن في لبسهن للعباءة وعدم إمكانية كشفهن بسهولة، وبالتالي يصعب كشف ما إذا كان هناك اتفاق مسبق بينهن وبين البائعين، وربما أيضاً استغلوا تصديق الناس بالسحر لتمرير هذا النوع من السرقات.

لا أستطيع الجزم في هذه القضية، وما أقوله مجرّد شكوك وظنون لا تغني عن الحق شيئاً، والأمر متروك للجهات الأمنية والقضائية لكشف الحقيقة، ولكن السؤال المطروح هنا: هل تقبل هذه الجهات بفكرة استعانة المجرم بالجن والشياطين في العمليات الجنائية والسرقة؟، فإذا كان كذلك، فكيف يتم تطبيق العقوبات والجزاءات على الأرواح الأرضية؟ فتلك والله الطامة الكبرى!.

الدين الإسلامي لا يرضى للناس أن يعيشوا في عالم الخرافات والأوهام، لذا حرّم الشعوذة والسحر، ودعا الناس إلى العيش مع الحقيقة والواقع، وحين نقرأ واقع المجتمع للأسف نلحظ أن غالبية الناس تعيش تحت سيطرة الوهم والخرافة، فيحركهم ويتحكم بهم كيفما يشاء.

وهناك من يستغل الخرافة في جلب المنافع المادية على حساب عقول البشر، فأصبحت علاقة الرقية بالسحر علاقة تكاملية طردية، ولِمَ لا؟ فقد أصبحت تجارة رائجة تدر على أصحابها أموالاً طائلة من كلا الطرفين، وأمسى بعض الرقاة، للأسف الشديد، يحاول إثبات أن السحر حقيقة وليست كذبا وخداعا، وأن المشعوذين بإمكانهم الاستعانة بالجن والشياطين وإرسالهم على الناس فتضرهم وتمرضهم وتشاركهم في المأكل والمشرب، وربما تسرقهم أيضاً، فيتلقف السحرة والمشعوذون هذه الأقاويل ليثبتوا للناس أن بإمكانهم نفعهم وضرهم.

يقرأ المسلم في القرآن أن السحر مكر وخداع، وليس له علاقة بأشباح أو أرواح يسلطها الساحر على المسحور، وقصة سحرة فرعون خير دليل على ذلك، فحينما رأى السحرة معجزة رسول الله موسى في تحول العصا إلى ثعبان، أدركوا أن ذلك حق وليس بسحر، لأن السحر كذب وخداع بصري، لذلك آمنوا وسجدوا لله رب العالمين.

ويقرأ المسلم أيضاً في القرآن { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى }، كما يعلم المسلم أن الساحر والشيطان ليس لهما سلطان على أحد من الناس، إلا على من اتبعهم وصدقهم فيما يقولون ويفعلون. يقول الله عزّ وجل {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } النحل99. {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} النحل100.

وبعد كل هذا يأتي من يقول للناس إن للسحر حقيقة، وإن السحرة يستعينون بالجن والشياطين، ويستدلون على ذلك بقول الله تعالى: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} البقرة102. والمقصود بالشياطين في الآية هم بنو إسرائيل الذين كذبوا وافتروا على نبي الله سليمان، وليس معنى الشياطين هنا الجن والأرواح والأشباح، كما يعتقد البعض. كما أن لفظة "شيطان" في اللغة العربية تعني الشر والباطل والابتعاد عن الحق، ولا تعني جنس كائن مخلوق.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن المضرة التي قد يحدثها الساحر لا تخرج عن كونها حيلا ودسائس يلبسونها لباس السحر ليغرروا بالسذج، كما أنهم قد يستخدمون أدوية وأعشابا تضر بالإنسان، فيعتقد البعض بأنها بسبب الجن والشياطين. وبهذا الصدد يقول القاضي عبدالجبار ما نصه: "إن السحر في الحقيقة لا يوجب المضرة، لأنه ضرب من التمويه والحيلة.."، ويقول أيضاً: "إن المشعوذ والمحتال إنما ينفذ حيلته على من لم يكن من أهل صناعته، ولا يكون له دراية ومعرفة..".

إن إغلاق العقل والإذعان للخرافة هما قتل للإرادات الحرة، ونشر لذهنية سطحية، وللأسف الشديد فإن بعض الرقاة والدعاة صنعوا في المجتمع أزمة فكرية تتمثل في وجود التناقضات فيما يقولونه وينشرونه بين الناس، بحيث أصبحوا ضحية للخرافة والوهم.

فهم يقولون للناس أن لا أحد من البشر يعلم الغيب، وفي الوقت نفسه يقولون إن الشياطين تخبر السحرة بخبر السماء في المستقبل، ويقولون عن الساحر إنه دجال ومخادع، ومع ذلك فإن سحره حقيقة ويضر به الناس!.

من الجرم في حق المجتمع إقصاء العقول، وتغييب الحقائق، والتعلق بالخرافات والأساطير والأوهام، التي تهدم روح التطور الحضاري، وتغيب المناهج العلمية التحليلية، فهل من وقفة جادة من العلماء ورجال الدين والمثقفين للتحذير من سلبيات الخرافة واجتناب مخاطرها على الفرد والمجتمع؟