أثناء استعار المواجهة المسلحة بين الجيوش العربية والكيان الصهيوني، عام 1948م، حاول الرئيس الأمريكي، هاري ترومان بالتنسيق مع مؤسس الدولة العبرية، أن يستطلع إمكانية تحقيق تسوية بين العرب والصهاينة. لكن جل المؤشرات، كانت تشير إلى رفض القيادات العربية إجراء مصالحة مع الكيان الغاصب.
في بيئة ترفض التفريط بالحقوق الفلسطينية، ومع حالة العزلة التي عانى منها الصهاينة، كان لبنان، بتركيبته التوافقية وتعدد طوائفه، وبحكم ارتباطاته الإقليمية والدولية، يمثل نموذجا مختلفا في الواقع العربي. فهذا البلد بقي نموذجا للتسامح والتعددية، وقبول الرأي الآخر. ولم يكن دوره في الصراع مع الصهاينة مركزيا، أثناء الحقبة التي أعقبت وعد بلفور عام 1917 حتى نكبة عام 1948. لقد دفع هذا الواقع بمؤسس الكيان العبري، ديفيد بن جوريون للقول بأنه ليس بمستطاعه التنبؤ بالدولة العربية الأولى، التي ستوقع معاهدة سلام مع "إسرائيل"، لكنه متأكد من أن لبنان سيكون الدولة الثانية.
وخلال الحقبة التي أعقبت استقلال لبنان، بقي هذا البلد الجميل، رغم حيادية مظهره، مرآة عاكسة تعبر عن وحدة مصيرنا، ومكامن قوتنا، كما تكفل بالكشف عن مناطق ضعفنا. فحين يقوى لبنان، ويتعزز حضوره، نعلم أن الأمة تسير على الجادة الصحيحة، وحين يكبو نعلم أن ثمة شرا يتربص بهذه الأمة.
وكان قانون لبنان القطعي هو بقاؤه شامخا وعصيا على الخضوع، مهما قست عليه المقادير, لقد صمد لأكثر من سبعة عقود، هي عمره بعد استقلاله، ولم تتحقق بعد نبوءة بن جوريون في استسلام لبنان. بل أضحى هذا البلد رمزاً للكرامة. وغدا بعد نكسة يونيو1967م، حاضناً للمقاومة الفلسطينية، وعبر حدوده أنجزت المقاومة عمليات نوعية ضد الصهاينة. وكان توقيع اتفاقية القاهرة بين المقاومة والحكومة اللبنانية، في 31 نوفمبر 1969م، قد مثل نقلة في العلاقة بين لبنان وفلسطين، عمدت لاحقاً بالدم، وانصهار كفاح الشعبين في مواجهة العدوان.
ومع توقيع حكومات مصر والأردن، ومنظمة التحرير الفلسطينية معاهدات سلام مع "إسرائيل"، أمسى لبنان، وحده في الساحة عنوان المقاومة في الصراع مع الصهاينة، وتحول إلى قاعدة ميدانية متقدمة في النضال ضد العدو.
وكانت التضحيات التي قدمها شعب لبنان ولا تزال باهظة، والدماء غزيرة. فقد تواصل العدوان على البلد الشقيق خلال العقود الأربعة الأخيرة، من قنص للقادة الفلسطينيين، إلى تدمير لمطار بيروت، عدا الاعتداءات المتكررة على القرى الجنوبية، إلى اجتياح واسع عام 1978، وغزو كبير وحصار شامل للمقاومة الفلسطينية استمر أكثر من ثمانين يوماً في بيروت انتهى بخروج المقاومة من لبنان، وترحيلها إلى أماكن متفرقة من البلدان العربية، واحتلال أجزاء واسعة من جنوب لبنان، جرى لاحقاً تنصيب سلطة محلية موالية لـ "إسرائيل" عليها، عرفت بسلطة سعد حداد. وخاض لبنان مقاومة باسلة استمرت ثلاثة عقود، تمكنت من إلحاق هزائم متكررة بالعدو، أجبرته في نهاية المطاف على الرحيل.
إثر وصول الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن للبيت الأبيض، أعيد طرح مشروع الشرق الأوسط بحدة وأصبح هذا المشروع، بعد حوادث 11 سبتمبر عام 2001 وإعلان الإدارة الأمريكية الحرب على الإرهاب، حجر الزاوية في السياسة الأمريكية. وعلى طريقه، احتل الأمريكيون أفغانستان والعراق، وطويت صفحة الوجود العسكري السوري بلبنان، وأثناء ذلك اغتيل رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري، اتهمت القيادة السورية بالضلوع في عملية الاغتيال، وصدر قرار عن مجلس الأمن الدولي بتشكيل محكمة دولية للتحقيق مع المتهمين.
وجاءت الهجمة "الإسرائيلية" على جنوب لبنان في يوليو 2006 لتمثل أعلى مراحل العدوان بحق المقاومة الوطنية اللبنانية. وقد أريد لهذه الحرب، حسب تعبير وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس، أن تكون مخاض الولادة لشرق أوسط جديد.
ومرة أخرى أيضاً، هزم العدوان وانتصر لبنان، وفشلت مراهنة الصهاينة على تفتيت جبهة لبنان الداخلية.
وكان التضامن السوري مع لبنان، أثناء الحرب، قد سجل أنبل المعاني في الارتقاء بمعاني الأخوة والتضامن بين الأشقاء. لقد هب شعب سوريا بأسره لنصرة الأشقاء في لبنان، وفتحت الأبواب من الشمال إلى الجنوب، لاستقبال اللاجئين الفارين من القصف الوحشي "الإسرائيلي"، وفتحت البيوت والمدارس لتتحول إلى سكن للهاربين من جحيم العدوان الصهيوني. وقد عبر شعب سوريا بموقفه هذا عن عمق التضامن بين الجسد الواحد، والوطن الواحد. وليسقط إلى الأبد رهان العدو في خلق الفتنة، وفصم العلاقة بين الشعبين الشقيقين: السوري واللبناني.
وكما عمل الأعداء على تخريب العلاقة بين بيروت ودمشق، جرت أيضا محاولات لتخريب العلاقة بين الرياض ودمشق، وسادت قطيعة أرادت لها القوى التي تضمر الشر للشعبين السعودي والسوري أن تستمر. لكن مبادرة خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله بن عبدالعزيز، في القمة العربية التي عقدت في الكويت، والتي أوصى فيها بتصفية الأجواء العربية من الخلافات، لما فيه مصلحة الأمة، مؤدية إلى حدوث تقارب في المواقف، وبشكل خاص بين القيادتين في المملكة العربية السعودية والجمهورية العربية السورية، حيث عادت المياه إلى مجاريها، وتبادل القادة الزيارات. وكان لهذه التطورات آثارها الإيجابية على العلاقة بين الشعبين الشقيقين، وتأثيراتها المباشرة أيضا على العلاقة بين دمشق وبيروت.
وقد مثلت زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى دمشق حدثا تاريخيا في العلاقة بين البلدين العربيين. وكان وصوله إلى بيروت، بمعية الرئيس السوري، بشار الأسد، على متن طائرة سعودية، قبل عدة أسابيع، واستقبالهما من قبل الرؤساء اللبنانيين الثلاثة، قد أذهل الكثير من المراقبين. وتحول حفل الاستقبال بالمطار إلى مهرجان فرح وعرس عربي كبير رسم البسمة على شفاه العاشقين لأمة العرب.
وأخيراً وليس آخراً جرب العدو "الإسرائيلي" امتحان شجاعة الجيش اللبناني، عندما قام جنوده بقطع شجرة في قرية العديسة بجنوب لبنان، تعيق كاميرات التجسس التي نصبتها القوات "الإسرائيلية". فتصدى الجيش اللبناني ببسالة نادرة لتلك المحاولة، مما أثار ذهول القادة الصهاينة، وجعل رئيس حكومة العدو نتنياهو يصف ما جرى بدقة بـ "أنه مفاجأة". وكان تضامن اللبنانيين، ووقوف الحكومة اللبنانية خلف الجيش اللبناني، باعتباره الحصن الحصين للدفاع عن الوطن وكرامته، والتضامن العربي الواسع، الشعبي والرسمي، مع لبنان، تعبيرا آخر عن وحدة المصير العربي.
ليبق لبنان بلد السحر والجمال، عنوانا للأخوة والمحبة والتضامن العربي، بعيدا عن الاحتراب والفتنة والكراهية، وجسرا للعبور العربي من حالة التشرذم والخلاف إلى التعاضد والوحدة.