القبض على صورة المدينة وعبقها أو ربما محاولة القبض على روحها، كان ولا يزال حلما كبيرا في أذهان الفنانين ومحترفي التأمل وعشّاق المعاني. المدن على قدر حضورها الصارخ، إلا أنها تبقى لغزا بشريا هائلا. ربما لأن المدينة في النهاية عبارة عن حكاية أم لملايين الحكايات اليومية التي تولد في حجرها. مع كل حكاية صغيرة تتسع الأم أكثر ويتسع حجرها للمزيد من الأشباه الباحثين عن خلق للمزيد من الحكايات.

السينما بنت المدينة وربيبتها المخلصة. السينما كانت ولا تزال مشهدا يقصده أهل المدينة ليتعرّفوا أكثر على أنفسهم. السينما كانت ولا تزال كذلك دعوة انضمام مفتوحة للراغبين في المشاركة في صناعة مدن المستقبل. القاهرة مثلا لم تكن في أذهان كثير من الحالمين والحالمات الذين قدموا لها من كافة القرى المصريّة إلا قاهرة الأفلام المصرية. أي القاهرة كما أرادتها خيالات صانعي الأفلام. الصدمة الأولى لمن يزور المدن الكبرى هي بطاقة التعرّف الأصيلة عليها. المدن مربكة ومركّبة. المدن تحتاج إلى لغة خاصة وعيون مختلفة عن تلك التي تربّت في القرى والأماكن الزاهدة في الجديد والمختلف. عطش المدينة هو انفتاحها الأزلي. المدينة لا تستطيع أن تغلق أبوابها. بمجرد أن تفعل ذلك فهي تعلن عن نهايتها. اليوم المدن الكبار هي أكثر الأماكن اكتظاظا في العالم. وهي في ذات الوقت وجهة القادمين الجدد. أماكن المدينة الضيقة هي أرحب الأماكن المتوفرة للأغراب والباحثين عن مساحة للعيش.

اليوم لدينا موعد لقاء مع عمل سينمائي يحاول القبض على إحدى أكبر مدن العالم وأكثرها إثارة وتوحّشا. هذا الفيلم حالة خاصة على المستوى الفنّي أيضا. من الجميل أن تشاهد فيلما رائعا لمخرج رائع، ولكن ماذا عن فيلم رائع من إخراج أحد عشر مخرجا رائعا! هذا هو فيلمنا لهذا اليوم. الفيلم الذي حشد فيه عدد كبير من النجوم الممثلين والنجوم المخرجين لتقديم عمل عن نيويورك، المدينة الهائلة، متعددة الأوجه والأذواق والصور، مدينة الحب والفن واللصوص والجرائم والجمال. مدينة النهار والليل، المدينة التي يهاجر لها عباقرة العالم في كل المجالات سنويا، كما يفد إليها في ذات الوقت النشّالون والعاطلون عن العمل. المهم أن هناك روحا نيويوركية تحيط بكل هذا.

الفيلم هو عبارة عن إحدى عشرة قصة مختلفة تدور في نيويورك، تعكس كلها الوجه المتنوع لنيويورك. للمدن أرواح كما للبشر، هذه فكرة يشعر بها الكثيرون في المدن الكبيرة، القاهرة مثلا لها روح تختلف عن بيروت، إسطنبول لها عالم آخر، لندن، روما، مكسيكو سيتي، كل مدينة لها روحها الخاصة التي تختلف عن غيرها. هذه الروح هي نتيجة امتداد تاريخي وثقافي هائل وعميق. نيويورك، الواجهة الأميركية على الشرق، كانت ـ على طول الخط التاريخي ـ معبرة عن روح التنوع والانفتاح الأميركي، في هذه المدينة لا تستطيع تحديد عرق أو لون أو دين غالب على الجميع، الكل داخل إطار هذه المدينة التي يحتضنها المحيط الأطلسي من جهة وتمتد منها القارة الأميركية من جهة أخرى.

من الأمور المثيرة للتأمل هنا هو كيف يمكن جمع كل هذه الأعمال لمخرجين مختلفين في فيلم واحد؟ أعتقد أن المشترك في كل هذه القصص المختلفة هو المكان، الذي لا يعني فقط المكان الفيزيائي بقدر ما يعني ثقافة تشكلت على مدار قرون لهذا المكان الذي أصبح لأكثر من أربعمائة سنة صدرا مفتوحا للملايين من الحالمين والحالمات، من القادمين إلى العالم الجديد، العالم الذي يسعون فيه لخلق وجود شخصي جديد. مع كل وطأة قدم جديدة تبدأ قصة مختلفة، قصة من إخراج نيويورك هذه المرة. ما يميّز نيويورك برأيي هو أنها تدفع دائما للأمام، أي إنها تحرّض سكانها للوصول لأعلى مستوى من الاتقان لما يقومون به، بغض النظر عن طبيعة العمل، الفنان لكي يصبح نيويوركيا فلا بد أن يبدع، وكذلك المجرم. وربما هذا ما يجعل هذه المدينة صاخبة لا تنام، نشطة، مدينة تركض ولا يستطيع العيش فيها إلا من يجيد الركض.

نيويورك، أنا أحبك. New York, I Love You هو فيلم مدينة. فيلم يخرجه أحد عشر مخرجا ويكتبه حوالي عشرين كاتبا وكاتبة. لا بد أن يكون فيلم مدينة. لكنه في الأخير مدينة من الحب. أي نيويورك العاشقة. الحب هو محور هذا الفيلم العاطفي. الحب الذي يولد في المدينة له مواصفاته الخاصة. الحب هنا في هذه الحشود الهائلة من البشر ونمط الحياة السريع عرضة للولادة والموت في كل لحظة. المدينة تدفع آلاف البشر في وجهك كل يوم، ولكن حضور هذه الآلاف سريع ومؤقت. لذا فإن عشّاق المدن يحتاجون لمطاردة تلك اللحظات التي تلوّح لهم بإمكان جديد. المحظوظ منهم من تنعم عليه المدينة بفرصة ثانية. يبدو أنه كما يتعلّم الباحثون عن الغنى والشهرة في المدن مهارات اغتنام الفرص والتمسّك بها، فإن العشاق يحتاجون لذات المهارات أيضا.

من الأسئلة التي يطرحها الفيلم هو كيف يصبح الحب صعبا وسط هذه الأمواج الهائلة من البشر؟ كيف تتباعد قلوب الناس وسط كل هذا الازدحام؟ ربما أن الإشارة هنا إلى أن الحب أقرب مما نتوقع. المدينة في الأخير هي مناسبة لقاء، ولكن هذا اللقاء لن ينعقد إلا بمبادرات نقوم بها نحن. ربما تدفعك المدينة للنجاح المالي أو الفني وسط عالم من الناجحات والناجحين، لكن الحب حالة خاصة. الحب في الأخير عملية لن يقوم بها إلا أنت وأنت فقط. الحب في المدن يشبه البشر. يتخلّق ويولد ضعيفا وهشّا ويحتاج إلى أم وأب يربطان وجودهما بوجوده.