الخميس الماضي، احتفت مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، في مقرها بلندن بمرور ربع قرن على تأسيسها؛ وعندما أذكر ربع قرن هنا، فأنا لا أقصد مجرد العمر، أو السنوات المكررة، أو الخبرات المتراكمة، وإنما أقصد استمرارية تحقيق أهداف المؤسسة الرائدة التي قام بوضعها مؤسس المؤسسة معالي الشيخ أحمد زكي يماني، والمجلس التأسيسي، والاستشاري لها، وأقصد ما تلاها من مشاريع تصب في توسيع أفق طلاب العلم والعلماء معًا، وأقصد من يسير أمور المؤسسة الخيرية بكل اقتدار.

مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي ـ التي غبت عن حضور الاحتفاء بجهودها لظرف خاص ـ تتمثل خطوطها العريضة في تشجيع مبادرات دعم ورعاية البحث والعمل في مجال المخطوطات الإسلامية، والجمع والبحث عنها في مختلف أنحاء العالم، والإسهام في مجهودات فهرسة ما لم يفهرس منها، والمساعدة في حفظها وترميمها، وعقد الدورات التدريبية في مجالات تحقيقها، وفهرستها، وحفظها، وإنشاء مكتبة مجهزة بأحدث وسائل البحث الضرورية لدراستها، وعقد المؤتمرات والمحاضرات والندوات الدراسية؛ بغرض تشجيع البحث والنقاش والحوار في مجال المخطوطات، وغيرها من جوانب الثقافة الإسلامية، وتحقيق ونشر طبعات جديدة للمخطوطات الإسلامية ذات الأهمية العلمية والتاريخية الخاصة، والتي يشهد المهتمون بفائق جودتها من حيث التحقيق والإخراج..

المؤسسة العريقة حملت مع ما حملت عدة مشاريع دقيقة؛ ظهر للنور منها حتى الآن ثلاثة مشاريع ومراكز مهمة، كل كيان منها يستحق أن يقف المتابع عنده؛ الأول (مركز المخطوطات) الذي أجملت سابقًا بعض أهدافه. والثاني (مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية) الذي يعمل على توسيع نطاق الاهتمام العلمي، والاهتمام الفكري بأسرار وحكم الشريعة، من خلال تشجيع الدراسات الجامعية أو المستقلة التي تُعنى بالمقاصد، والدعوة إلى ربط الاجتهاد المعاصر بالمقاصد الشرعية ربطًا يقف به المسلم على المعاني والغايات التي شرعت من أجلها الأحكام الإسلامية، والاهتمام بفقه الأولويات، وفقه الموازنات، وفقه المآلات، وفقه السنن الإلهية، والدعوة إلى إبراز الربط بين النصوص والأحكام والمقاصد في الفتاوى والأبحاث، والعمل على بيان فساد دعوى أتباع المقاصد التي يرمي أصحابها إلى التحلل من الالتزام بثوابت وقطعيات أحكام الشريعة، والعناية والتعريف بتراجم العلماء الذين عنوا بدراسة المقاصد، والتأليف فيها، ونشرها، والعمل على التوسع في إبراز نظرية المقاصد في العلوم الاجتماعية والإنسانية المختلفة، والربط بين دراسة المقاصد، ودراسة القواعد الفقهية، وتأكيد دورهما في الاجتهاد القديم، والمتجدد، والعمل على إعداد موسوعة مقاصدية شاملة. والمركز أو الفرع الثالث هو (موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة) التي يقوم القائمون عليها بتوثيق التراث العلمي والحضاري الشامل لمكة المكرمة والمدينة المنورة، وحفظه للأجيال القادمة، في صورة تسهل للباحثين والدارسين الرجوع إليها، مستعينين في ذلك بالأساليب التقنية والتجهيزات الحديثة، وفي سبيل إنجاح هذه الرسالة تشكلت اللجان في المدن الإسلامية التي تحتفظ بوثائق عن المدينتين المقدستين، كإسطنبول، والقاهرة، وجامعة لَيْدن بهولندا، وجُمعت المؤلفات، والوثائق التاريخية، والصور الفوتوجرافية، والخرائط، وحتى التسجيلات الصوتية، وأجريت الدراسات العلمية التي تناولت الجوانب المتعلقة بالمدينتين المقدستين عبر التاريخ..

ذكرت الفرقان مهنئًا وداعيًا بالمزيد من التوفيق، منوهًا بأن هذا الجهد الذي قام على يد رجال مخلصين، هو الآن أمانة يقوم بحفظها وتنميتها شابٌ جاد، هو الابن والأخ المهندس الميكانيكي شرف أحمد زكي يماني، الذي أفتخر بتدريسي له، وأفتخر أكثر بملكاته الواضحة في التطوير، والإنتاج، والإدارة؛ وفقه الله تعالى وأعانه، وشد عضده بإخوانه.