حيثما ينظر المرء يجد ركاما لسياسة أميركية متعثرة واستراتيجية لم تتحقق، أفرزت انتقادات شديدة اللهجة لإدارة الرئيس باراك أوباما وحملته مسؤولية ضياع "هيبة أميركا"، وتضاؤل دورها في العالم.

أحداث مصر لا تقف بمفردها كدليل على أزمة السياسة الخارجية. فهناك أيضا، فضيحة التنصت الأميركي على خوادم الإنترنت، التي ترددت صداها في العالم، والموقف المتردد في تسليح المعارضة السورية، والمتخبط تجاه البرنامج النووي الإيراني، والمتراجع تجاه المستوطنات الإسرائيلية، وغير المفهوم تجاه تسلط حكومة نوري المالكي بالعراق. ويبدو أن البيت الأبيض غير مدرك بعد لما يمكن أن تجره تلك الأزمة من تبعات على الولايات المتحدة، وعلى العالم في الوقت ذاته.

تبرير محتمل


جاء التبرير الأميركي لتلك المواقف بدعوى إعفاء الولايات المتحدة مما لا قدرة لها على القيام به في ظل مناخ الأزمة الاقتصادية التي عصفت بها في 2008، ومراجعة السياسات الطائشة لإدارة الرئيس السابق جورج بوش. إلا أن النقاش يجب أن يتجه لفحص البديل الذي اقترحته إدارة أوباما لتلك الإخفاقات أو ما يسمى بعقدة المبالغة في "تقدير القوة الأميركية".

بدائل وهمية


البديل كان الإعلان على رؤوس الأشهاد بأن الولايات المتحدة لن تفعل كذا ولن تؤثر على كيت وأنها تقلع عن حماية الحلفاء وتكف عن التدخل وعن التأثير إلى آخر قائمة ما تتداوله مراكز البحث والدراسات الأميركية. وعناوين تلك الاستراتيجية البديلة تبدو خادعة لحد بعيد من زاويا عديدة.

ذلك أن الولايات المتحدة حين تعلن فجأة أنها تخلت عن استخدام تأثيرها أو محاولة تشكيل مواقف معينة هنا وهناك وأنها "لا تستطيع" و"لا تملك القدرات" جاء التخلي عن "الإيحاء بالقوة" طبقا لتعبير أحد حكماء السياسة الأميركية المعاصرين وهو روبرت جيتس وزير الدفاع الأسبق.

قواعد ثابتة


ويخالف ذلك قاعدة أساسية في السياسة الخارجية وهي أن الإيحاء بالقوة يساوي نصف القوة من الناحية الفعلية. فالخشية من دور معين تؤدي في ذاتها إلى انضباط في سلوك القوى المضادة دون الحاجة في أغلب الأحوال لاستخدام ذلك الدور أو تلك القوة من الناحية العملية.

إلا أن واشنطن تخلت على الملأ عن أي إيحاء بالقوة حين خرجت على قارعة الطريق لتبلغ الجميع أنها كفت بالثلاثة عن أي محاولة لاستخدام القوة وأنها لن تتدخل ولن تفعل ولن تفصل ولن تؤثر. كان تخليا مجانيا عن الإيحاء بالقوة ومن ثم فإنه كان مخالفا لأبسط قواعد بناء سياسة خارجية متماسكة ومؤثرة حقا.

ثم ما لبث ذلك أن تضاعف بالتضارب المضحك أحيانا بين الأقوال والأفعال.

الحالة السورية


في الحالة السورية مثلا بدأت واشنطن بإعلان من الرئيس أوباما نفسه بأن على الأسد أن يترك السلطة "فورا" وانتهت إلى القبول ببقائه حتى إلى ما بعد مؤتمر جنيف 2 الذي باتت واشنطن في حالتها المتخبطة الحالية تعتبره "عز المراد" كما يقولون.

وبينما كان الجميع يشرحون لواشنطن ـ حتى جف ريقهم، منذ وقت مبكر ضرورة تسليح المعارضة السورية قبل أن تسقط فريسة لمنظمات إرهابية تتحرك بحرية فإن واشنطن تلكأت ثم باتت تشكو الآن من سقوط المعارضة فريسة لمنظمات إرهابية أي باتت تشكو من نتيجة موقفها هي نفسه.

الوضع بالعراق


وفي الحالة العراقية ركضت واشنطن حتى دون اتفاقية لوضع عملية انسحاب منظم من الفوضى التي خلقتها واشنطن نفسها في العراق بعد غزوها. وبعد أن عبث الثور بمحتويات محل الخزف وعاث فيه تحطيما وتكسيرا أصيب بما يشبه السكتة القلبية، فانسحب ركضا تاركا تلك الفوضى العارمة لتعبث بمستقبل ذلك البلد بأكمله.

أحداث مصر


وحول أحداث مصر، تحول المزاج العام بين القوى السياسية المختلفة في واشنطن إلى ركض نحو أكبر قدر ممكن من أحجار اللوم لتلقيها كل قوة سياسية على القوى الأخرى. الجميع هنا في واشنطن يلومون الجميع. وثمة محاولة باسلة من الإدارة وأنصارها في أجهزة الإعلام لبناء جدار يقي البيت الأبيض من أكبر قدر ممكن من الأحجار. إلا أن الأمر ليس سهلا. ذلك أن أخطاء الإدارة واضحة حتى أمام بعض أنصارها ممن يدافعون عن سياساتها على استحياء من قبيل الرغبة في الحد من حدة الانتقادات التي تواجهها الآن.

مدافعون ومنتقدون


نقترب أكثر مما يقال في حملات الانتقاد وما يقال في الحملات المضادة أي تلك التي تدافع عن سياسات إدارة أوباما منذ تفجر أحداث يناير 2011 في مصر.

وإذا بدأنا بمن يدافعون فإن النموذج الأفضل هو البروفيسور مارك لينش أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن مدير تحرير "فورين بوليسي" وأحد المحللين الأميركيين البارزين في شؤون الشرق بالأوساط الأكاديمية الأميركية. وتتلخص حجج لينش في الدفاع عن سياسة الإدارة في نقاط أهمها "لا ينبغي أن يحتفل أحد عند حدوث انقلاب عسكري على أول رئيس منتخب في مصر. إن إزاحة مرسي لا يمس الأسباب العميقة التي تفسر المرحلة الانتقالية الكارثية التي مرت بها خلال العامين ونصف العام التي مضت. التدخل العسكري هو اعتراف بفشل الطبقة السياسية المصرية بأكملها".

انتقادات "هدسون"


والعبارة تحفل بالافتراضات الخاطئة من زاوية منتقدي الإدارة. ونأخذ مثلا رد معلق أميركي آخر هو جون هدسون، فيقول إن مقترحات متعددة لحل الأزمة السياسية في مصر قوبلت بالرفض من الرئيس مرسي منذ مبادرة القوات المسلحة للمصالحة في شتاء العام الماضي، وهي المبادرة التي لم يرفضها الرئيس المصري المخلوع فحسب بل وجه لوما إلى قيادة الجيش لأنها تقدمت بها دون التشاور معه مقدما. واضطر قيادات الجيش آنذاك إلى القول إنها كانت "مجرد دعوة على الغداء".

وأوضح هدسون أن تلك المبادرة لم تكن الوحيدة. فقد تلقى مرسي أيضا مبادرة من حزب "النور" تهدف إلى جمع الشمل بمصر إلا أنه لم يكتف برفضها بل عاقب الحزب بجهد مكثف بذلته جماعة الإخوان لشق الحزب ما أسفر بالفعل عن شقه. وظل الحزب منبوذا من الجماعة طوال الفترة التي أعقبت مبادرته. وتضاف مبادرة "النور" إلى عشرات الأوراق الأخرى التي قدمت لمرسي بهدف تحقيق مصالحة وطنية من حزب الغد ومن اتحادات وأفراد وشخصيات عامة. إلا أن كل ذلك ألقي في سلة المهملات في مكتب الرئيس بالاتحادية أو في مقر الإخوان المسلمين بالمقطم.

وأضاف لينش ما حدث كان "انقلابا عسكريا على أول رئيس منتخب بمصر". إلا أن ذلك المنطق ينبع من "عبادة الإجراءات" كما يقول الأميركيون. الاجراءات مهمة والشكل مهم إلا أن المحتوى يفوقهما في أهميته. فقد خرج أكثر من 20 مليونا إلى الشارع لإسقاط مرسي. هل يمكن اعتبار ذلك انقلابا عسكريا أم يمكن اعتباره تنفيذا لدور القوات المسلحة في تطبيق إرادة الشعب المصري؟.

كوارث الانتقالية الأولى


أما حديث لينش عن "المرحلة الانتقالية الكارثية" في مصر خلال العامين ونصف عام التي مضت فإنه حديث يضر بإدارة الرئيس أوباما ولا يفيدها.

ويبرهن هدسون على ذلك باستعراض مواقف إدارة أوباما طوال تلك المرحلة عبر تصريحات مسؤولي تلك الإدارة أنفسهم. بعد انتخاب مرسي مباشرة مثلا قال جاي كارني الناطق بلسان البيت الأبيض مرحبا بالنبأ "نحن نتطلع إلى العمل مع الرئيس المنتخب محمد مرسي والحكومة التي سيشكلها على أساس من الاحترام المتبادل لدعم المصالح المشتركة العديدة بين مصر والولايات المتحدة".

وفي يوليو من العام ذاته قال وزير الدفاع السابق ليون بنيتا "إنني مقتنع بأن مرسي رجل مستقل وأنه رئيس لكل المصريين وملتزم حقا لتطبيق الإصلاحات الديموقراطية في مصر".

وفي 28 نوفمبر الماضي قالت فيكتوريا نيولاند الناطقة بلسان وزارة الخارجية الأميركية إن مرسي بدأ في التفاوض مع القضاء المصري، "وذلك بعيد للغاية عن أن يتيح لأحد وصف الرئيس المصري بأنه مستبد". وتوالت التصريحات لاسيما تلك التي أدلت بها السفيرة الأميركية في القاهرة آن باترسون.

بل إن الإدارة واصلت دعمها لمرسي حتى بعد تفجر احتجاجات 30 يونيو. فقال الناطق بلسان الخارجية باتريك فنتريل في أول يوليو الجاري "الرئيس مرسي هو الرئيس المنتخب ديموقراطيا لمصر. إننا نحث كل الأطراف على ضمان العملية الديموقراطية وبناء المؤسسات الديموقراطية في مصر".

بعبارة أخرى حولت واشنطن الديموقراطية التي تتحدث عنها إلى إجراءات شكلية وصورية يجب على الجميع عبادتها من الوجهة اللفظية دون البحث عن مضمونها الحقيقي. فإن كانت الأغلبية الساحقة من المصريين خرجت إلى الشارع لسحب الثقة من مرسي وإن كان 15 مليون مصري وقعوا على طلب بإقالته فإن كل تلك الأمور لا تندرج في تعريفات "الديموقراطية" التي طالبت الخارجية الأميركية المصريين باحترامها.

محاولات الإدارة


الإدارة إذن تحاول الدفاع عن سجلها في مصر في مواجهة الانتقادات المتزايدة التي تواجه إخفاقها الاستراتيجي. وبينما تأتي أكثر تلك الانتقادات علوا من الكونجرس فإن الأوساط الأكاديمية والإعلامية والسياسية تشارك طبقا لحالة الاستقطاب التقليدية في واشنطن في مثل تلك اللحظات.

وفي هذا السياق قال رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب إيد رويس إن الإدارة أيدت مرسي بصور مباشرة وغير مباشرة وأضاف "إن الاضطرابات في مصر تنبع من محاولات حكومة مرسي التغول على السلطات جميعا في مصر وهو أمر واقفت عليه إدارة أوباما فترة طويلة. فشلت الإدارة في حمل حكومة مرسي على تطبيق الإصلاحات الاقتصادية والسياسية الضرورية لتجنب تلك الكارثة".

وقال عضو مجلس النواب مايكل ماكول "من سوء الحظ أن إدارة أوباما تعتقد أن بالإمكان الركون للإخوان بقدر ما تعتقد أن بإمكانها أن تتفاوض مع الإيرانيين وتثق في التزامهم بتعهداتهم. على الولايات المتحدة أن تواصل تمسكها بقيمها الأساسية وأن توضح أهدافها في المنطقة للجميع".

الموقف الحالي للإدارة


المؤشرات جميعا تبدو كأنها تشير إلى أن الإدارة تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من استراتيجية تحطمت في 30 يونيو. هناك على سبيل المثال حرص مشروع على تجنيب مصر خطر ولادة جماعات إرهابية جديدة أو عودة القديمة للنشاط. ومن هذه الزاوية فإن الإدارة تقول لكل من تتمكن من التواصل معهم في مصر أنه يتعين تجنب أي إجراءات انتقامية ضد الإخوان ومن يتحالفون معهم.

وتسعى واشنطن للتمسك بما تبقى من غلالة رقيقة من الحيادية في هذه اللحظة المضطربة بمصر. فقد قالت الناطقة بلسان الخارجية جين بساكي "نعتقد أن على كل طرف أن يتحدث مع الأطراف الأخرى وأن ينصت لأصوات الشعب المصري. الإدارة تتابع موقفا بالغ التوتر وسريع التبدل عن كثب ونحن لن ننحاز إلى طرف على حساب الأطراف الأخرى".

وتبدو الاتصالات الأميركية الآن متجهة بقوة لمحاولة البحث عن مخرج يبقي على حلفاء مرسي داخل العملية السياسية أي إبعادهم عن اللجوء إلى العنف. بل إن إشاعات كثيرة انتشرت بواشنطن تشير إلى أن واشنطن تقف وراء الإفراج عن عدد من قيادات الإخوان بعد ساعات من اعتقالهم في أعقاب حصول القوات المسلحة على تعهدات منهم بتجنب اللجوء إلى العنف أو الدعوة للجوء إليه. إلا أن هناك من يشككون في أن يحافظ الإخوان على هذه التعهدات أو أن يتمكنوا من إقناع أتباعهم بالحفاظ عليها.

والمؤكد الآن أنه فور هدوء الأوضاع بمصر فإن قضية سياسة واشنطن تجاه الأحداث منذ يناير 2011 ستعود بقوة لدائرة النقاش.

ملف أخطاء


ويعد مصريون لملف كامل من أخطاء الإدارة مؤسسا على تصريحات مسؤوليها وعلى المواقف العملية لحكومة الرئيس محمد مرسي وعلى المشورة المتخبطة التي قدمت للمجلس العسكري في الفترة الانتقالية الأولى أي منذ فبراير 2011 وحتى يونيو 2012 لتقديمه إلى الأعضاء الجمهوريين بالكونجرس حتى يتسنى محاسبة الإدارة على أخطائها بمصر وهي أخطاء يدفع المصريون ثمنها الآن ويدفعها معهم كل الأشقاء في الدول العربية. وسيتضمن الملف موقف الإدارة من معركة الدستور أولا في صيف 2011 وانصياعها لآراء الإخوان رغم الإيضاحات التي قدمت إلى السفيرة آن باترسون بأن هذا الخطأ سيجر أخطاء لا حصر لها لاحقا. وكان هذا على وجه الحصر هو ما حدث.

وتسعى الإدارة في الوقت الحالي إلى الإبقاء على قنواتها مفتوحة مع كل اللاعبين في مصر. غير أن من الخطأ الفادح افتراض أنها سلمت بهزيمة استراتيجية متكاملة تؤسس لعلاقة أطول مدى مع منظمات ما يسمى بالإسلام السياسي. حجم الاستثمار السياسي الذي ذهب إلى هذه الاستراتيجية لا يتيح التنازل السريع عنها. وستبرهن الفترة المقبلة على قدرة تلك الاستراتيجية على الصمود بمواجهة رفض الشعب الكاسح لها.