لدي فرضية ما أزال أتحقق منها منذ زمن ليس بالبعيد وتثبت الأيام أنها صحيحة، وهي أن المطعم حبٌ من أول قضمة! وهذا ما حدث لي مع مطعم فايف قايز Five Guys الأميركي.

كنت للتو خارجا من سلطات الهجرة "الجوازات" في مطار "دالاس واشنطن الدولي" بعد وصول طائرة الخطوط السعودية قادمة من الرياض، استلمت حقيبتي وبسرعة نحو الصالة الداخلية A حيث لم يبق على رحلتي سوى الساعة ونصف فقط، وسريعا أصدرت بطاقة الصعود وخلال دقائق معدودة كنت متجها نحو البوابة A3، وقفت بالقرب من البوابة التي لم تفتح بعد والركاب منشغلون بما لديهم، فذاك يطالع مجلة والآخر يلاعب طفله، وتلك نائمة وأخرى تقضم شطيرة برغر بسعادة عارمة.. هنا توقفت وأرعيت النظر نحو قطعة القصدير المجعدة التي تغلف الشطيرة ومدى السعادة البالغة على وجه تلك الفتاة. استشعرت ذلك البرغر الغض اللين أو ما يطلق عليه بـJuicy Burger وهناك قررت أن أتناوله الآن.. الآن.. التفت خلفي لأجد ذلك المطعم ذي اللون الأحمر، الذي لم ألاحظ وجوده لأول مرة.

أميركا هي بلد شطائر البرغر بلا منازع، بل إنه تحول مع مرور الزمن إلى أيقونة مرتبطة بالحلم الأميركي، خصوصا عندما يقترن بقارورة الكولا الزجاجية وقليل من البطاطس الذهبية المقلية، وعلى الرغم من كثرة وتعدد مطاعم البرغر إلا أن النجاح لا يكون إلا من نصيب عدد قليل منها، ومن المعلوم أن مفهوم البرغر قد انتشر بداية من مطاعم الطرق السريعة والقريبة من التجمعات العمالية، تلك المطاعم كانت تقدم خلطة من السعر الرخيص والخدمة السريعة، ولكنها بالطبع تقدم جودة لحم مقبولة ضمن المعايير المعتبرة، فشطيرة اللحم تتكون من نسبة قليلة من لحم رديء وكثير من فول الصويا المصنع، وأطنان من التوابل والحوافظ الكيميائية، بالإضافة إلى البطاطس المقلية في زيت مهدرج رخيص الثمن.

لكن عندما قرر "جيري ميريل" وزوجته "جاني" بصحبة أربعة من أبنائهم الذكور ـ أصبحوا خمسة بعد سنوات قليلة ـ افتتاح أول مطعم يحمل مسمى "فايف قايز" Five Guys عام 1986 في مدينة أرينجون بولاية فيرجينيا؛ لم يكونوا مدركين إلى أين سوف يأخذهم هذا المطعم الفريد من نوعه، الذي اعتمد في بدايته على مفهوم "البرغر المحلي" Local burger أي اللحم الطازج، واللمسة المهارية والإدارة المحلية.

الأبناء الأربعة لصاحبَي المطعم: "مات"، "جيم"، "تشاد"، "بين"، الذين انضم إليهم الأخ الخامس: "تاليور" بعد سنوات قليلة ليكتمل عقد الشبان الخمسة؛ ينتشرون اليوم في المناصب العليا بالشركة، فاثنين منهم مسؤولان عن الزيارات الميدانية للفروع خارج الولاية الأم، والآخر للتدريب، والرابع يشرف على الامتياز التجاري، بينما الأخير يدير مخابز الشركة الرئيسة.

حتى العام 2001 لم يكن هناك سوى خمسة فروع فقط للمطعم، تديرها العائلة بشكل مباشر، وخلال عشرة أعوام قفز الرقم حتى وصل إلى 750 فرعا في أربعين ولاية أميركية وأربع مقاطعات كندية! وكلمة السر هي التطبيق المدروس لفكرة "الامتياز التجاري" Franchise، التي تتمحور حول قيام المالك الأساسي للعلامة التجارية بمنح مالك آخر ـ أو مجموعة ملاك ـ حق فتح مطاعم تحمل نفس المسمى التجاري، وتعمل بنفس الأسلوب والإجراءات، وغني عن القول نفس قائمة الطعام، تماما كما هو موجود في المطعم الأساسي، الأمر الذي جعل الشركة تفكر حاليا باقتحام أسواق جديدة خارج قارة أميركا الشمالية.

يعتمد سر نجاح المطعم على كونه من أوائل من طهى البرغر والبطاطس بواسطة زيت الفول السوداني Peanut، بالإضافة إلى طهي المكونات الرئيسة مثل البصل والفطر وغيرها في هذا الزيت وحدها أولا، الذي يعتقد أنه أقل ضررا من أنواع الزيوت الأخرى، إضافة إلى مذاقه اللذيذ. الجميل في الأمر هو وجود عبوات كبيرة من حبيبات الفول السوداني موزّعة بين أركان المطعم، بحيث يقوم الزبون بخدمة نفسه وملء علبة كرتونية صغيرة من الفول السوداني يتسلى بها قبل أن يستلم طلبه ساخنا طازجا من المطبخ المفتوح وسط المطعم، وتلك تجربة تستحق أن تعيشها ولو قليلا..

المثير في الانتباه أن المطعم ورغم تصنيفه في فئة الوجبات السريعة؛ إلا أنه يلتزم بمبدأ التخصص المحدد لكل موظف، فالمحاسب محاسب فقط، وذاك يقوم على طهي شطيرة اللحم، وآخر للبطاطس، والثالث للإضافات الأخرى، على عكس ما تراه من الموظف الشامل في مطاعم الوجبات السريعة الأخرى، ما يجعلك مطمئنا أنك بين يدي خبراء مميزين، بينما تعتمد فلسفة التسويق في السلسلة على أن المنتج المميز سوف يجذب الزبائن بلا شك، وهذا ما حدث فعلا في ظاهرة ملاحقة السلسلة من أحبائها عبر الولايات المتحدة، بل إن نسبة تترواح بين 2-3% التي من المفترض أن تصرف في التسويق يتم صرفها على برامج تحفيز الموظفين، ودعم صندوق التقاعد، بل ودعم شراء أسهم ملكية بعض الفروع من قبل العاملين فيها، وخصوصا من يعملون في مسقط رأسهم، كما أن هذه البرامج قد أثمرت عن كون معدل تسرب الموظفين بالسلسلة يعد الأقل ضمن نفس الصناعة على امتداد الولايات المتحدة الأميركية.

ومن الطريف أن الرئيس الأميركي "باراك أوباما"، حينما قرر أن يدعو فريق عمله في البيت الأبيض على حسابه؛ كان مطعم "فايف قايز" خياره الأول، وبالطبع كانت الوجبة برغر بقري بالجبن الأميركي، لتكون تلك هي أكبر ضربة دعائية ساعدت على انتشار أوسع للمطعم. بالإضافة إلى الأساليب التسويقة المتبعة التي لا تكلف المطعم شيئا، مثل فتح أبواب مطبخ المطعم وكافة الأبواب أمام الصحفيين بكل ما تحمله الكلمة من معنى، مما جعله يوجد بقوة على أغلفة المجلات، وضمن قوائم أفضل وأجود المطاعم في فئته.

العبرة دائما بالنهاية، فالتركيز الشديد على الجودة وحسن المعاملة وبناء صورة إيجابية نمطية عن المطعم؛ جعلته قبلة للجائعين والباحثين عن هامبرغر شهي وطري، وجعل الجميع يحلم أن يعود مرة أخرى للمطعم، ولكن برفقة أصدقاء وضيوف آخرين، فهل تكون منهم؟ أتمنى ذلك.