لا يمكن لأي كيان سياسي متماسك وقوي أن ينجح دون أن يكون لديه أيديولوجيا سياسية يرتكز عليها ويجتمع حولها أبناء ذلك الكيان.
ولو رأينا مثلا الاتحاد السوفييتي سابقا كيف أنه اتخذ أيديولوجيا الشيوعية لتكون الوسيلة لاستعمار وإدخال الكثير من الشعوب تحت النفوذ السوفييتي آنذاك، وبالرغم مما كان يتمتع به من قوة عسكرية هائلة إلا أنه لم يكن ليصل إلى تلك المكانة العالمية لولا وجود فكرة يدعو إليها ويستخدمها في أساليب الخداع السياسي وهكذا.
وهكذا الغرب بقيادة أمريكا آنذاك؛ قابل تلك الأيديولوجيا بفكرة مضادة وهي الرأسمالية إلا أن الغرب كان أكثر ذكاء بتوسيع معاني الحرية والعدالة وحقوق الإنسان مما جعله يتغلب في النهاية، إلا أن تلك الشعارات نفسها كانت تُستخدم أيضا في استعمار الشعوب الأخرى؛ إضافة إلى أدائها لواجبها المطلوب بتوحيد شعوب الغرب تحت أيديولوجيا واحدة؛ وجاذبيتها لكثير من الشعوب الأخرى، وأنا أعني هنا الأيديولوجيا بمعناها العام الذي يشمل تحته العديد من الأيديولوجيات الضيقة.
وأسهم التنافس السياسي المحتدم بين القطبين آنذاك، في تعميق الاختلافات وتجذيرها، حيث كثيرا ما تأخذ السياسة والظروف المحيطة إلى مزيد من الاختلاف وتجذيره، وأحيانا يكون بشكل لاإرادي ولا يشعر به الناس إلا بعد أفول تلك الظروف. وقد يشتد الخلاف إلى درجة تجعل من أتباع كل تيار لا يستطيعون الرجوع إلى الوراء لإصلاح أو حتى انتقاد أخطائهم، وهذه مشكلة أخرى! ولهذا تميّز الغرب أكثر كونه يملك آلية أكثر فاعلية للنقد والإصلاح الذاتي.
أعود لمنطقتنا الملتهبة هذه الأيام والتي تعاني الكثير من المشاكل السياسية والأمنية والثقافية للأسف! وعند الحديث عن التحديات السياسية المحيطة يجب علينا صياغة فكر سياسي "أيديولوجيا" يستطيع من خلالها مقاومة تلك التحديات ويمكنه هزيمتها أيضا. الحقيقة أن العقيدة السياسية هي أهم محرك دفع نحو نجاح السياسات قبل مساهمته في تواؤم اللحمة الداخلية، وترتكز الكثير من الدول على الأيديولوجيات التي يجتمع حولها الشعوب، وكثيرا ما تختلط تلك الأيديولوجيات بالشعارات الوطنية.
وإذا نظرنا إلى الخليج بمكوناته السياسية؛ فإننا نجد الكثير من الفرص لبناء تلك الفكرة بشكل أسهل ربما من الكثير من المناطق الأخرى. هناك شبه توافق خليجي حول سياسات كثيرة، وهناك تشابه كبير بين الكيانات الخليجية من الناحية الثقافية والسياسية والاقتصادية، بالإضافة إلى تقارب العادات والتقاليد بين الشعوب إلى حد كبير، وهذا يساعد كثيرا في بناء أيديولوجيا سياسية موحّدة وموسّعة يمكنها مواجهة التحديات السياسية في المنطقة.
نحن نحتاج إلى شخصية "فكرة" وطنية جذابة وحديثة ومتوافقة مع الظروف الحالية يمكن أن يجتمع الناس حولها، وتساعد أبناء الوطن على التلاحم والتعاون والشعور الوطني الواحد، كما يجب أن تكون واسعة بحيث تشمل أكبر عدد ممكن من أبناء الشعب وهذا أساس مهم لنجاحها.
ما هي الأيديولوجيا السياسية التي تحتاجها دول الخليج؟
قبل الإجابة عن هذا التساؤل؛ نحتاج إلى تحديد الأخطار التي تهدد الأمن القومي للمنطقة، حيث إن الظروف السياسية والثقافية والأمنية المحيطة تساهم غالبا بالدور الأكبر في صياغة المفهوم.
ومما لا شك فيه أن التهديد الإيراني بشقيه الثقافي والسياسي أحد أهم مُهددات الخليج، إلا أن مما يُلاحظ في هذا الصراع أن السلاح الأيديولوجي الإيراني (تسميته سلاح أدق تسمية للفكر الإيراني) يضرب في كثير من الأماكن التي لا تغطيها الأيديولوجية السياسية الخليجية الحالية، باستثناء المملكة ربما.
نلاحظ أن العقل السياسي الإيراني تمكن من تطويع العِرق والتاريخ والدين "بالمعنى الطائفي الضيق" لتكون كلها أساسا لأيديولوجيته، وتمكن من زراعة الكثير من البؤر الموزّعة حول العالم العربي لتكون منطلقا للأنشطة السياسية والاستخبارية والعسكرية له، وتمكن بهذه الفكرة من تطويع الكثير من الناس البسطاء إلى درجة جعلتهم بولاء عميق للدولة الإيرانية أكثر ربما من الكثير من الإيرانيين أنفسهم! وربما قاتلوا لمصلحة إيران وسياساتها ولو كانت ضد مصلحة بلدهم الذي يعيشون فيه! إنها الأيديولوجيا الجهنمية التي سلبت مفاتيح عقولهم وتاهت بها في أزقة طهران!
التساؤل هنا ما هي الأيديولوجية العربية والخليجية التي ستواجه هذه الأفكار الإيرانية والتي يؤمن بها أتباعها بشكل عميق؟
تمكن الملك عبدالعزيز في مرحلة بناء الدولة من بناء فكر سياسي ممزوج بالإرث السلفي الذي ورثته المنطقة من عهد الدعوة النجدية، وتمكن بحنكته من صياغة فكر اجتمع الناس حوله، وساهم بشكل أساسي في بسط وتوحيد الدولة على رقعة جغرافية كبيرة لم يكن لذلك الإنجاز أن يتم لولا اقتناع وإيمان الناس به.
ولكن في ظل هذه الظروف، يعتقد الكثير أنه يجب صياغة رؤية سياسية بأيديولوجيا جديدة تكون مؤهلة لمواجهة تلك التحديات المحدقة بنا، ولا شك أن وجود عامل الدين فيها أمر ضروري، خاصة أن الخصم الأبرز يدور حول أدلجة الكثير من الأفكار الدينية لتكون أساسا لاستعمار الشعوب بمفاتيح عقولها! يحصل هذا بالرغم من كل أصناف الظلم والقمع السياسي والطائفي داخل إيران، الذي لا يتوانى حتى في قتل وتصفية كل من يرفع صوتا ولو كان مسالما!
كما يجب أن تشتمل هذه الرؤية على الكثير من المبادئ العادلة والحديثة والجاذبة، مثل مبادئ العدل والحرية وحقوق الإنسان التي جاءت بها الشريعة قبل أكثر من ألف عام، وربما تكون مثل هذه المبادئ من أهم ما يواجه بها بلد قمعي كإيران.
لا يمكن في مثل هذا المقام المحدود أن يتم تحديد تلك الأفكار التي يجب أن نسير عليها، بل يجب أن يجتمع المثقفون والمهتمون للمشاركة في صياغة تلك السياسة، فالأمر محدق ويجب علينا الوقوف في وجه هذه الأزمة سياسيا قبل أي خطوة أخرى، وأدعو الله أن يوفق ولاة الأمر لكل ما فيه خير البلاد والعباد.