العدل هو أساس قيام الأمم، وهو الذي بقيت الدول على مر التاريخ تبحث عن آليات تحقيقه وتطبيقه حتى وصلنا لما نحن عليه من فصل بين السلطات الثلاث الذي تنص عليه معظم الدساتير على مستوى العالم، وهو ما يفهم من نصوص الباب السادس من النظام الأساسي للحكم الذي تنص مادته الرابعة والأربعون على أن السلطات في الدولة تتكون من: "السلطة القضائية والسلطة التنفيذية والسلطة التنظيمية، وتتعاون هذه السلطات في أداء وظائفها، وفقاً لهذا النظام وغيره من الأنظمة، والملك هو مرجع هذه السلطات".

وإمعانا في الحفاظ على هذه القيمة تنص المادة السادسة والأربعون من النظام الأساسي للحكم على أن "القضاء سلطة مستقلة، ولا سلطان على القضاة في قضائهم لغير سلطان الشريعة الإسلامية"، كما ضمن النظام الأساسي للحكم للقضاة أعلى مستوى من الاستقلال في ممارسة المهمة العظيمة المناطة بهم بأن جعل بموجب المادة الثانية والخمسين تعيين القضاة وإنهاء خدمتهم بأمر ملكي، بناءً على اقتراح من المجلس الأعلى للقضاء وفقا لما يبينه النظام، وذلك فصلا وإبعادا لإمكان عدم حياد القاضي بسبب إمكان تسلط السلطة التنفيذية عليه.

في الفترة الأخيرة رأينا وسمعنا ولمسنا مستوى عاليا من التواصل وتبادل وجهات النظر بين وزارة العدل وبين القضاة على غرار ذلك الذي رأيناه بين الوزارة وبين بعض المحامين، وقد تسربت من خلال برامج التواصل الاجتماعي صورة خطاب ينسب لعدد من القضاة يبينون من خلاله بعض ما يختلفون فيه مع قيادة المنظومة العدلية في المملكة، وهو ما تباينت حوله الآراء بين مؤيد ومعارض لتوجيه مثل هذا الخطاب من جهة وبين مؤيد ومعارض لمحتواه من جهة أخرى.

بغض النظر عن الرأي والرأي المضاد بشأن هذا الخطاب، فإن المتعامل مع المنظومة العدلية في المملكة يعلم علم اليقين ويرى أن هنالك ما يحتاج إلى تعديل وتطوير في كثير من الجوانب مثل تأخير القضايا وضياع المعاملات وتهالك المباني وضعف تأهيل الموظفين الإداريين، ونقص عدد القضاة في مقابل سيل القضايا التي ينظرونها، مما يجعل أي مزايدات ومهاترات في باب رغبة أو عدم رغبة جميع المعنيين في تطوير البيئة القضائية والمنظومة العدلية، هي من باب سكب الزيت على النار وتشتيت البوصلة عن وجهتهـا الصحيحة.

أنا متأكد أن قيادة المنظومة العدلية في المملكة تريد يقينا أن يسير العدل في سياقه الصحيح، وأن قضاتنا الأفاضل يريدون ذات الأمر، والمحامون وكل مواطن له علاقة بها يريد حتما ذات الأمر، ولهذا فإن الأولى على الجميع (أقول الجميع) بلا استثناء أن يبحثوا عن وجهة البوصلة متناسين خلافاتهم الشخصية في هذا الباب.

إن الخطوة الأولى التي يجب على الجميع اتخاذها لوضع هذا الخلاف في سياقه الصحيح، هي التوقف عن الإشارة إلى الآخر وأخطائه والتركيز على ما يمكنه هو أن يقوم به لكي يتحسن أداء المنظومة العدلية في المملكة، ولعلي أبدأ بزملائي المحامين في المملكة طالبا منهم ومن نفسي إعانة القضاة على إنهاء القضايا في نطاق زمني مقبول من خلال تفعيل المواد الواردة في أنظمة المرافعات الشرعية بشأن تبادل المذكرات قبل الجلسات والتعليق والإجابة أثناء الجلسات دون الاستمهال لغير داع وضرورة، والتوقف عن إلقاء اللوم على القاضي الغارق في كم كبير من القضايا، وقد جرب بعض الزملاء هذا الترتيب في عدد من القضايا انتهت خلال مدد زمنية مقبولة بشكل جيد.

مطلوب من القضاة أن ينظروا في آليات إدارة دوائرهم وملفاتهم والموظفين التابعين لهم، وأن يبذلوا ما عليهم بغض النظر عن جوانب القصور التي يستشعرونها في الجانب الإداري لديهم، سيبقى هنالك قصور وستكون هنالك أخطاء ولكن سيكون التطور والتحسن ملموسا، عليهم الالتزام بمواعيد حضورهم للدوام (وهو ما يلتزم به الكثير منهم) وعليهم إن لزم الأمر العمل بعد ساعات الدوام ولو من باب الاحتساب لكي لا تتداخل المواعيد وتتقلص فرص المحامين والوكلاء في مساعدتهم على إدارة وقتهم.

أما المجلس الأعلى للقضاء بصفته رأس الهرم في السلطة القضائية، ووزراة العدل بصفتها أعلى الهرم في الجوانب الإدارية للمنظومة العدلية، وبحكم أن الجانبين مرؤوسان من قبل مسؤول واحد، فخطوتهم الأولى نحو تحقيق التطور المأمول في منظومتنا العدلية، هي الاستفادة من هذه الاعتراضات أو الخطابات التي يوجهها لهم المتعاملون مع المنظومة العدلية سواء كانوا قضاة أو محامين أو غير ذلك، بدلا من مواجهتها والوقوف أمامها، وأن تعتبر كل معترض ناصحا أمينا بغض النظر عن لهجته وصيغته وأن تأخذ الاعتراضات والنصائح على أنها مرايا قد ترينا من أنفسنا ما لا يعجبنا ولكن لغرض أن نعدل ذلك الأمر لا لغرض الاعتراض على إبدائه، إنها بذلك ستساعد نفسها على تركيز الجهد نحو التطوير وستجد أن الجميع واقفون معها صفا واحدا عاملون ليل نهار لمساعدتها في أداء دورها.

أدعو الجميع من خالص قلبي لأن يوجهوا طاقاتهم نحو تنسيق العمل وتضافر الجهود للوصول بالمنظومة العدلية في المملكة إلى الهدف المنشود والمأمول من خادم الحرمين - حفظه الله -.