مع نهايات الحرب العالمية الأولى التي مات بها الملايين، إضافة إلى تفشي الإنفلونزا عام 1918 ، ولد من رحم الموت الأسطورة نلسون مانديلا.. كان مولده في قرية نائية عن المدينة وقريبة من الكرامة الإنسانية اسمها (مفيتزو) بمقاطعة ترانسكاي بجنوب أفريقيا.. ترقى الطفل من اللعب فأصبح راعيا للغنم في بيئته الريفية، وذلك لم يمنعه أن يفهم أن في بلده ثلة من البشر البيض تتحكم في جنوب أفريقيا، وكأن السكان مجرد قطيع تحت مقصلة قوانين وتشريعات تهدر حقوق البشر، فأصبح الأفارقة في بلدهم كأنهم طارئون أو عابرون، ولقد سار في فكرته ابتداء خلف شخص بارز مقاوم اسمه يونجينتابا ويعني (الناظر إلى الجبال)، وهذا كاف للإيحاء بالتسامي.

التحق (المشاغب) بمعهد للدراسة وتدرج به، وكان يراد له أن يصبح مستشارا لدى بعض النافذين السود التابعين للبيض. في المعهد بدا قرويا لحد السخرية، فيتهامس الطالبات والطلاب بصعوبة مشيته حيث لم يعتد على الحذاء، وسمع عن درجة (الليسانس) وتأكد له أنه كتاب ضخم جدا! لكن جهله بكثير من القضايا الصغيرة لم يعطل فهمه للقضايا الكبرى في الحياة، ثم التحق لدراسة القانون بجامعة فورت هير، وبدأ نشاطه نحو حقوق أمته، وعمل محاميا في (جوهانسبيرج) وتفتحت عيناه أكثر على تهميش بني جلدته وعلى الطبقية العنصرية الحادة التي تجعل من السود أصحاب الأرض الأصليين لا يسكنون بجوار البيض ولا يركبون في مواصلاتهم، بل ولا يدخلون دورات المياه أو حتى يذهبون للشواطئ الجيدة.

في مذكراته البديعة (رحلتي الطويلة من أجل الحرية) يقول: "لم تظهر أمامي علامات في السماء، ولم أتلق وحيا، ولم ألهم الحقيقة في لحظة معينة، ولكنها آلاف الاستخفافات وآلاف الإهانات وآلاف اللحظات المنسية تجمعت لتثير في نفسي ذلك الغضب وروح التمرد والرغبة في مناهضة النظام الذي عزل قومي واستعبدهم".. فانضم إلى المؤتمر الوطني الأفريقي، وكانت مرحلة هامة من النضال والنشاط والجدية حتى لم يجد وقتا لإجازة لأكثر من 7 سنين متواصلة، ولم يستطع أحد إيقافه من خلال رشوة بمال أو منصب شأنه شأن الكثيرين من المناضلين من أصول هندية أو أفريقية ممن يرون الشعوب تتحرر وهم يعطون ملهيات سخيفة على شكل انتخابات طلابية أو محلية شكلية. وزادت طرقات الإهانات من فرص قدح الوعي للشعب، ولكن الشرطة طرقت باب مانديلا في صباح الخامس من ديسمبر عام 1956 ليقبض عليه وتبدأ سلسلة اعتقالات له من النظام الجائر الذي ينفذ به القاضي والشرطي والسجان مهمة واضحة تغلف بالإجراءات لغاية المستبدين. خرج لفترة ليحلم بالاستقرار وشراء أرض لبناء مسكن فتأجل حلمه الصغير لأكثر من 40 عاما ليتحقق الحلم الكبير ولتتحرر أرض بلده من غاصبيها.

وبحث عن مكان يؤويه غير السجن ويستطيع منه إيصال صوته لأذن العالم فتنقل بين تنزانيا والسودان وإثيوبيا ومصر وتونس والجزائر والمغرب.. وغيرها الكثير. ومع أن بعض المثقفين اتهموه بأنه صنيعة النظام أو اتهموه بالشيوعية، ولكن الحقيقة هي التي أعادته عام 1962 ليعتقل من جديد في سجن انفرادي حرص فيه على سلامة عقله وتوقد قضيته وعلى الرياضة، حيث الغرفة مضاءة بشكل دائم ليلتبس الليل بالنهار فيفقد الشعور الإيجابي بالزمن! ينقل عن صديقه أحمد كاثرادا: "إن الدقائق في السجن تمر وكأنها سنون، بينما تمر السنون وكأنها دقائق".. وحين أعيد مع بقية السجناء عاد للنضال من سجنه، فنقل إلى سجن للأفارقة منذ أكثر من 200 عام في جزيرة (روبن) بجوار كيب تاون وحكم عليه بالمؤبد وهو في السادسة والأربعين من العمر، ليجد في الجزيرة أكثر من 1000 سجين للحرية، وقد سهلت له السلطات الهرب لأكثر من مرة، حيث دس له من يظهر التعاطف ويخطط له الهروب من خلال زيارة عيادة الأسنان أو بتغافل تمثيلي من الحراس ليهرب فيبرر إطلاق الرصاص عليه، ولكنه لم يقع في الفخ. وعندما تحسنت ظروف اعتقاله استطاع أن يرى والدته لمرة واحدة بعد 10 سنوات، حيث ماتت بعدها انتظارا، وسجنت زوجته كغيرها من النساء المطالبات بخروج أزواجهن من السجن، ومات ابنه في حادث سير، وبقي السجين مسؤولا في سجنه عن أحفاده، حيث السجن لا يسلب الإنسان حريته، بل يحاول أن ينتزع هويته، إلا أن العالم وعبر الصحافة وكذلك الراديو، الذي انتشر حينها كثيرا، ومع بدايات ظهور التلفزيون يتحدث عن قضيتهم وحريتهم وحرية بلدهم التي لم تك قابلة للدفن، خاصة مع تنوع الشخصيات المناضلة دينيا وعرقيا، فلطالما تحدث مانديلا عن صديقه المسلم (أحمد كاثرادا) وهو شخصية هامة مناضلة، وهو من دفع مانديلا لكتابة مذكراته وراجعها، وكذلك (أحمد مير) وغيرهما.. لأن فكرة التحرر كبيرة ولإنجازها لا بد أن تكون خالية من المفاهيم الضيقة التي تحاصر صانعها قبل غيره، مع أنه صرح بأن جميع دول الغرب لم تدعم قضيتهم في الخمسينات والستينات، بخلاف بعض الدعم الإنساني الرسمي من حكومتي السويد والنرويج. ومع أن غالبية السجناء لم يحظوا بتعليم كاف، إلا أنه قد يكون إيجابيا من زاوية أن البلدان المقهورة يكون التعليم فيها لإضعاف التفكير وكره القراءة والثقافة، فهو بالنهاية تدريس لا تعليم. وبدأ الكثير من أتباعه بالتعليم والقراءة الحقيقية داخل السجن، وتعلم هو الكثير، وفي 1982 نقل إلى سجن في كيب تاون، وتغير الطعام لما يناسب الإنسان، وتبين السبب حيث إن أمته خارج السجن كانت يقظة تطالب بحريتها وحرية ملهمها فاضطر المتسلطون المغتصبون للدخول في مفاوضات معه ومع أتباعه وبقيت المماطلة في الحقوق.

شاهد العالم هذا الرجل التأريخي وهو يخرج من سجنه في فبراير 1990 مرفوع الهامة بعد 27 سنة في السجن. يقول -الراعي القديم- عن نفسه لحظة خروجه: "اقتربنا من البوابة وبدأت طقطقة آلات التصوير وكأنها أصوات قطيع من المواشي، وظهرت أمامي فجأة آلة طويلة سوداء مغلفة بما يشبه الفراء، حسبته نوعا جديدا من السلاح اخترع أثناء وجودي في السجن فجفلت منها ولكن ابنتي أخبرتني أنه ميكرفون"! وعندما خرج الملهم واستقبله الملايين وحصل على "نوبل" في السلام عام 1993 اختاره شعبه رئيسا لجنوب أفريقيا من عام 1994 إلى 1999 كأول من يحكمهم منهم منذ أكثر من 4 قرون قبل أن يتقاعد ويفسح الطريق وينتخب غيره. وقد صرح في كتابه الأخير (حوارات مع نفسي) أنه رفض كثيرا أن يكون رئيسا وترشح تحت ضغط حزبه.. ولكن كان منصب الرئيس والجوائز أقل بكثير من مانديلا في التجربة والنضال والتأريخ والحس الإنساني. لقد قدم مانديلا (المشاغب) بحياته وتضحياته وإصراره وصبره درسا من أعظم دروس التأريخ النضالي، ولطالما ردد: "الشجاعة ليست غياب الخوف، ولكنها الانتصار عليه".. وها هو بالأمس يموت على فراش الواقع ليعيش في ذاكرة التاريخ والزمن.. فلا نامت أعين الأذلاء.