في الوقت الذي تفتح فيه المتاحف المصرية كل ما تملك من كنوز أثرية للأعين (الزائغة) والأنامل (الخفيفة)، ولكل من يجد في نفسه جرأة (علي بابا)، بقصد أو بغير قصد (ولا أدري ما مغزى كلمة "بغير قصد" هنا في ظل السكوت عن تعطل ثلاث وأربعين كاميرا مراقبة من أصل خمسين في متحف محمد محمود خليل الذي شهد فضيحة سرقة لوحة الفنان الهولندي فان جوخ "زهرة الخشخاش"، ولكن يبدو أن عرف الكتابة التي تريد تبرئة نفسها حتى أمام اللصوص هو الذي يفرض مثل هذه الكلمات على كل لسان، وكأننا نريد دائماً أن نترك ثغرة لمروق اللص تماماً مثلما نترك ثغرة لمروقنا من طائلة التشهير أو السب)!، أقول: في هذا الوقت الذي شهد سرقة "زهرة الخشخاش" التي يقدر ثمنها بخمسة وخمسين مليون دولار، والبعض قدرها بمئة مليون دولار، يأتي إعلان وزير الثقافة المصري فاروق حسني أمس عن اعتماد مشروع جديد بقيمة 29 مليون جنيه لتطوير هذا المتحف وتأمينه لضمان عدم تكرار سيناريو سرقة لوحة زهرة الخشخاش (!).

التعجب هنا، ليس من مبلغ الـ29 مليون جنيه لتأمين المتحف، وإنما التعجب هنا أساساً يكمن في كيفية تدبير وإيجاد هذا المبلغ في هذا الوقت القياسي، وكأننا كنا ننتظر وقوع الكارثة لكي نبدي كرمنا الكبير في الحرص على الكنوز المصرية، وهنا أجدني مضطراً إلى تعجب آخر (!).

تذكرنا تلك الهمة في تأمين المتحف المسروق من قبل وزارة الثقافة، وكذلك الخطة التي يعكف عليها المجلس الأعلى المصري للآثار أيضاً لتأمين المتاحف المصرية بشكل عام، وكان أول بوادرها أن أعلن المجلس – كما أوردت وكالة الأنباء العالمية "رويترز" أول من أمس، إغلاق متحف النوبة بمدينة أسوان في أقصى جنوب البلاد لمدة أسبوعين لتطوير نظم المراقبة والتأمين بعد انتهاء عمرها الافتراضي، أقول: تذكرنا تلك الهمة، بالهمم الكبيرة التي كنا نشهدها في الشوارع (سواء في القاهرة أو في أي من محافظات مصر) لتزيين الجدران ورصف الطرق وتشجيرها وإنشاء أعمدة الإنارة، هكذا فجأة ودون مقدمات، على الرغم من أن الناس يئسوا من تنفيذ هذه الطلبات المشروعة فكفوا عن المطالبة بها، وهكذا نجد المسؤولين الصغار يدبرون فجأة الميزانيات المتاحة لتحقيق كل أحلام الناس، ولكن الكارثة الكبرى، كانت تتجلى دائماً بعدما تنتهي الزيارة، ويغادر المسؤول الكبير هذا المكان الذي (تشجّر) و(تنوّر) و(تزيّن)، فيكتشف الناس أن كل ما حدث إنما كان صيانة لـ(عين المسؤول) عن الأذي، وليس لراحة الناس، فتعود الأشجار إلى (تربتها الأولى)، والأعمدة إلى (مخازنها)، وما هي إلاّ أيام قليلة ويذوب الأسفلت في تراب الطريق، لأنه لم يكن إلاّ كالألوان على الجدران مجرد (دوكو)!.