أكتب هذا الأسبوع من القاهرة، حيث عُقد المنتدى الاستثماري الخليجي المصري؛ لمناقشة فرص الاستثمار في مصر، بعد أن تقلصت تدفقاته في أعقاب الثورة المصرية في يناير 2011، ومنذ ذلك الوقت أدت الأوضاع غير المستقرة إلى تردد المستثمرين وقلقهم.
وباعتبار الظروف التي تمر بها مصر، فقد أدهشني حجم الحضور، الذي قدّره المنظمون بنحو (1400) من أصحاب الأعمال، بما في ذلك (400) من دول الخليج. وكان رئيس الوزراء الدكتور حازم الببلاوي، ومعظم أعضاء وزارته من ضمن الحضور.
والتركيز على الاستثمار تطور محمود، فالمساعدات الأجنبية، وهي محدودة في حجمها بالضرورة، تكون عادة موجهة للقطاع الحكومي، ولا يظهر مردودها الاقتصادي على المواطن العادي بشكل واضح، إن ظهر. أما الاستثمارات فيمكن أن توفر فرص عمل للمواطنين وإسهامات حقيقية ملموسة في بناء الاقتصاد.
وساد في المنتدى، الذي عُقد في منتجع قريب من القاهرة، بعيد عن زحمتها ومظاهراتها، جو متفائل، خاصة أنه عقد بعد يوم من اختتام المؤتمر الدستوري، إذ أنهت "لجنة الخمسين" مسودة الدستور، الذي سيطرح للاستفتاء العام قريبا، وكان رئيس اللجنة حاضرا في المنتدى، محتفلا بإنجاز هذه الخطوة المهمة من "خارطة الطريق".
وأكد المسؤولون الذين تحدثوا في المنتدى تفاؤلهم بمستقبل الاقتصاد، ووعدوا بتغييرات واسعة في قواعد وإجراءات الاستثمار لجذب المستثمرين وتحريك عجلة النمو. وتوقع وزير الاستثمار أن يبلغ حجم الاستثمار الأجنبي في مصر (25) مليار دولار بحلول منتصف 2014، أي بزيادة (3) مليارات عن مستواه الحالي، مقارنة بتدفقات بلغت (2.2) مليار خلال عام 2012. وأشاروا إلى أن نصف الاستثمارات الأجنبية في مصر جاءت من دول الخليج. فالاستثمار الخليجي موجود بقوة، بقي رغم الأزمات السياسية، ويمكن أن يعود بقوة أكبر مع تحسن ظروف الاستثمار.
ومع حماسته الشديدة للتغيير، أظهر رئيس الوزراء المصري، وهو اقتصادي معروف قبل أن يصبح رئيسا للوزراء في منتصف هذا العام، واقعية أكثر، حين قال مبتسما: إن علينا أن نتذكر أننا نتحدث عن أقدم نظام بيروقراطي في العالم. وهو يشير إلى أن بيروقراطية مصر العريقة، لم تُظهر في الماضي شهية كبيرة للتطوير.
والعلاقات الثقافية والتجارية بين مصر والجزيرة العربية والخليج، تعود إلى آلاف السنين، خاصة بين ضفتي البحر الأحمر. بل ترى المؤرخ اليوناني هيرودوتس، وهو يكتب تاريخه المشهور منذ (2500) سنة، يجد صعوبة في تحديد أين تنتهي الجزيرة العربية وأين تبدأ مصر. واستمر هذا الترابط منذ ذلك الوقت.
ولكن مهما كانت الروابط التاريخية عميقة، والإرادة السياسية والمشاعر الشعبية قوية، فإن للتجارة والاستثمار منطقهما الخاص. ويكمن سر النجاح في المواءمة بين احتياجات البلد المضيف للاستثمار ومتطلبات المستثمرين، إذ تتركز تلك الاحتياجات في جذب استثمار حقيقي، يُنتج فرص عمل للمواطنين، ويسهم في بناء الاقتصاد على المدى الطويل، ويساعد في نقل التقنية والخبرات وأحسن الممارسات.
أما المستثمر، فيهمه تحقيق أكبر عائد ممكن لاستثماره، والحفاظ على رأسماله. وفي ذلك لا يختلف مستثمرو الخليج عن المستثمرين الآخرين، ويبدي مستثمرو الخليج، وكثير منهم يعيشون ويعملون في مصر ويرتبطون بها منذ عقود، حرصا حقيقيا على الإسهام في بناء اقتصاد مصر، وتحقيق الازدهار والرخاء لشعبها.
وقبل أن ألقي كلمتي في افتتاح المنتدى، التقيت بعدد من رجال الأعمال من دول الخليج، بعضهم مستثمرون قدماء في مصر، وآخرون يستكشفونها لأول مرة. ولدى الجانبين تساؤلات عن مستقبل الاقتصاد المصري، وعن الاستقرار والأمن ومخاطر الاستثمار.
وقدمتُ أمام المنتدى تلك المشاغل والتساؤلات في النقاط الست التالية:
أولا: هناك حاجة إلى استعادة الأمن والاستقرار السياسي في أقرب فرصة ممكنة. ولا شك أن الالتزام بـ"خارطة الطريق" وإقرار الدستور، الذي أقرت مسودته منذ أيام، خطوتان مهمتان لتحقيق ذلك الهدف.
ثانيا: التعريف بفرص الاستثمار التي تتوافق مع احتياجات الفترة الحالية، وتوفر عوائد مجزية. والتواصل مع المستثمرين مباشرة لطمأنتهم والإجابة عن تساؤلاتهم.
ثالثا: إصلاح المناخ الاستثماري، بما في ذلك تعديل قانون الاستثمار، وتسهيل إجراءات التأسيس، واستكمال منظومة قوانين الازدواج الضريبي، وتأسيس قواعد واضحة لحل الخلافات. ولذلك كان مشجعا أن عددا من كبار المسؤولين أكدوا في المنتدى أن هذه الإصلاحات في طريقها إلى التنفيذ.
رابعا: توفير ضمانات للاستثمار، فبالإضافة إلى الضمانات القانونية التي ذكرتُها، فإن الضمانات المالية ستشجع المستثمرين أكثر، وهي متوفرة (بمقابل معقول) في الأسواق المالية والمصارف، وتقدمها المنظمات الدولية والإقليمية لضمان الاستثمار.
خامسا: تقديم الحوافز الاقتصادية، بما في ذلك تبسيط إجراءات الاستيراد والتصدير، وإزالة أو تخفيض الرسوم الجمركية على مدخلات الاستثمار، والمحافظة على سعر صرف مستقر للجنيه المصري.
سادسا: تطوير البنية التحتية. وقد بدأ ذلك، ببطء، في السنوات الأخيرة، إلا أن مصر تئن تحت وطأة بنية قديمة لا تساعدها في اجتذاب المستثمرين. فشبكة الطرق، والمطارات، ووسائل النقل والاتصال ما زال أمامها شوط طويل للوصول إلى مستوى يوفر للمستثمرين البيئة العملية اللازمة. ومن حسن الحظ، أن عددا من الشركات الخليجية قد حققت نجاحا كبيرا في تطوير البنى التحتية، ورأيت بعضها في المنتدى، متحمسة لمستقبل الاقتصاد المصري، وراغبة في الإسهام في تطويره.
وبنهاية المنتدى، الذي استمر يومين، كان مشجعا أن المستثمرين والرسميين أصبحوا يتحدثون اللغة نفسها، متفقون على أن في مصر إمكانات لم توظف التوظيف الكافي، وهي أكبر بلد عربي سكانا، وتقع في قلب العالم العربي نقطة تواصل بين شطريه، وتهيئ فرصا كبيرة في الاستثمار السياحي والزراعي والصناعي والتجاري. ويمكن أن تجعل هذه المقومات مصر وجهة جاذبة للمستثمرين، المصريين منهم والخليجيين وغيرهم.
وفي الوقت نفسه، حرص المسؤولون المصريون، وهم يعرضون أكثر من (60) فرصة استثمارية رئيسة، على التاكيد بأنهم مستعدون لتقديم الضمانات التي تطمئن المستثمر، وتقلل من مخاطر استثماره في مصر. وأعلنوا عن تطوير لإجراءات حل الخلافات، نتج عنه حل (19) قضية تخص مستثمرين خليجيين، وأن المزيد من تلك القضايا سيتم حلها خلال وقت قصير.