باحث جاد، عرف بحضوره المستمر في الوسط الثقافي، دون افتعال لضجيج. وعلى الرغم من أنه مختص في الأدب الحديث إلا أنه وجه قلمه في الفترة الأخيرة، لمقاربات نقدية تغوص في التراث العربي والإسلامي، حيث أصدر مؤخرا كتابان في هذا الإطار، الأول بعنوان "الموروث وصناعة الرواية" ألمح فيه إلى أن هناك من الروائيين من حاول توظيف التراث بقصد الإساءة له، وكتاب آخر بعنوان "مضمرات التأويل.. ظاهرة إتلاف الكتب في الثقافة العربية الإسلامية"، يصل فيه إلى أن تركيز الثقافات الشفاهية على المعرفة والتذكر في الثقافة العربية خلق أجيالا نمطية.
وفي حوار أجرته "الوطن" معه، يؤكد الناقد والأكاديمي معجب العدواني أن "العاطفة" هي السبب في اندفاع بعض المثقفين والدعاة لنقاش قضايا الآخرين على حساب قضايا وطنهم.
في دراستك الأخيرة (مضمرات التأويل.. ظاهرة إتلاف الكتب في الثقافة العربية الإسلامية).. وصلت إلى أن من أسباب إعلاء قيمة الحفظ على حساب الكتابة هو "إحراق المكتوب".. هل تعتقد أن هذا الأمر تسبب في غياب ثقافة التحليل والمنطق وبالتالي مهد لانسياق العامة وراء أي حديث أو دعوة سماعية دون وعي؟
أدى إعلاء قيمة الحفظ في الثقافة إلى غلبة الثقافة الشفاهية على حساب الكتابية، الحفظ هو أحد المستويات الأولية في تحصيل المعرفة في ثقافة رسخت له في نماذج شتى يمكن تتبعها وتحليل أبعادها وأثرها، ولهذا فلا عجب أن كان فخر الفقهاء والدارسين متمثلا في قوة الحفظ، وتلا ذلك أن استطرد المؤرخون في تحديد محفوظات علماء وفقهاء في مصنفاتهم. وبالتأكيد فإن الثقافة الشفاهية تركز على هذا المستوى من مستويات التصنيف المعروف الذي سكه (بلوم)، ويُعرف بهرم بلوم المعرفي، ويضم في مستواه الأول المعرفة والتذكر، ثم يتدرج إلى الفهم ثم التطبيق ثم التحليل ثم التركيب وأخيرا التقييم. لقد أسهم تركيز الثقافات الشفاهية على المستوى الأول إلى إهمال كافة المستويات الأعلى معرفيا، وهذا كان له أثره في خلق أجيال نمطية تحمل ملمح التشابه لا الاختلاف، ومن يتجاوز منها إلى مستويات أعلى فسيكون للعامة موقفها النمطي المعتاد، وهو موقف غير قابل للدخول إلى التحليل والتركيب أو التقييم، ولهذا كان إحراق المكتوب نوعا من ردة الفعل الذي يمارس تجاه إنتاج فردي أو قومي، ومن خلال دراسة الأنساق الكامنة وراء هذا الفعل تاريخيا سنجده قد شاع في العصر الوسيط، وتراجع قليلا في ثقافتنا الحديثة، ولا يزال يعمل بفاعلية في بعض الدوائر. وفي رأيي أن العامة الذين يتفاعلون مع هذا المستوى أول من تتحقق لديهم رغبات الإتلاف المباشرة، فإثر دعوات التحريض تنساق العامة - كما ورد في السؤال - بلا وعي مكتفين بوعي فرد يفتقد إلى التحليل والتركيب والتقييم.
وعلى ذلك فقد أشرت في دراستي إلى أن حوادث الإتلاف الكتابي لم تكن مقصورة على إلغاء ذاكرة المكتوب فحسب، بل تجاوز الأمر إلى ما هو أكثر من ذلك، إذ وصل الأمر إلى نشوء ظاهرة إلغاء أعم وأشمل بلغت حد الأنساق الثقافية المنتجة، كان لثقافتنا الدور الأكبر في تشكيل نسقين ثقافيين أنتج أحدهما الآخر، وقد تم إنتاج هذين المسارين الثقافيين في فترتين زمنيتين مهمتين هما: فترة بواكير التشكيل الثقافي الإسلامي وفترة بداية عصور التدوين في العصر العباسي، أما النسقان الثقافيان فهما: نسق غلبة ذاكرة الحفظ والشفاهية على ذاكرة الكتابة، ونسق آخر احتفى بالكتابة وهمش الشفاهية. ومع أن هذين النسقين يبدوان متتاليين، فهما متكاملان يؤديان إلى نتيجة واحدة في هذا الإطار، إذ يفضيان إلى النتيجة نفسها التي تفترض كونهما نسقين أسهما في تواتر تلك الحوادث.
كذلك ألمحت في هذه الدراسة إلى أن المسلمين في صدر الإسلام كانوا يتحفظون على التزيد في "الكتابة" و"العمران" ويعتبرونهما خطرا على الأمة.. كيف ذلك وهم أسسوا لحضارة كونية لم تمح حتى الآن؟
هذا أمر حدث فعلا ولا يحتاج إلى تلميح، ولا يلغي الحضارة الإسلامية التي أسسوا لها كونيا، فالمسلمون في صدر الإسلام لم تكن لديهم ثقافة القصور الفارهة والمباني الفخمة التي كانت شائعة في الحضارات المجاورة لهم، وقد وردت في القرآن الكريم آيات تحث على استلهام العبرة وأخذ العظة مما حدث للأمم السابقة التي كانت مهتمة بالعمران والبناء، ولا أدل على ذلك من إرم ذات العماد، وغيرها من الأمم، فالبناء دليل على اهتمام مبالغ بالدنيا، ولذا كان مبدأ الإسلام في ذلك التقشف والابتعاد عن كل ما يزيد عن الحاجة للمسلم، إذ يُسأل عن ماله فيما أنفقه، أما الكتابة فكانت تتوازى مع العمران في هذا النمو، وكان وجودها مقتصرا على القرآن الكريم. كان انتشار التدوين متصلا مع انتشار العمران، تحديدا مع ظهور مفهوم الدولة، ونشأة (الديوان)، وقد وصل ببعض السلف الأمر إلى أن أنه كان يكتب الحديث ثم يمحوه، إذ وردت روايات تدعم الشفاهي وتقلل من دور المكتوب، وكان غير واحد من السلف يستعين على حفظ الحديث بأن يكتبه، ويدرسه من كتابه؛ فإذا أتقنه، محا الكتاب، خوفا من أن يتكل القلب عليه، فيؤدي ذلك إلى نقصان الحفظ، وترك العناية بالمحفوظ... وروي أن بعضهم كان يسمع الحديث ويكتبه، فإذا حفظه، دعا بقراضٍ فقرضه.
في كتابك الآخر "الموروث وصناعة الرواية" تحاول تلمس تأثير الرموز التراثية والدينية في الرواية العربية.. بكل شفافية، كيف رأيت توظيف التراث الفكري الإسلامي في الرواية العربية؟ وما حقيقة ما يردده بعض المناوئين للأدب الحديث من تهم، مثل إن الراوي والكاتب العربي يتقصد توظيف الفكر والتعاليم الدينية بشكل سلبي ومسيء في الأعمال الروائية؟
تعيش الكتابة الروائية الحديثة لحظة استلهام الموروث بفاعلية كبيرة، وقد ساعد الدرس النقدي، والجوائز التشجيعية والدوائر الأكاديمية على ذلك في فترة ما، وفي رأيي أن التوظيف الظاهري السلبي أو الإيجابي كان ميدان نقد فسيح يتبارى فيه الدارسون، أما الروائيون فأراهم متأثرين بالموروث بفاعلية، ولا سيما من تعامل معه بتوظيف يقصد من ورائه الإساءة أو ما شابه، بمعنى آخر، يظل الموروث مسيطرا على هؤلاء وأولئك، ومنعكسا في قوالب الكتابة الروائية لديهم، إن المظهر الأخطر في القراءة أن نتفاعل مع الصور السلبية في التراث دون وعي.
بصراحة، ما تفسيرك لاندفاع بعض المثقفين أو الدعاة للمشاركة في نقاش قضايا سياسية في دول أخرى؟
تتحكم عواطف بعض المثقفين والدعاة في تقييم التجارب من حولنا، ويندفعون إلى إبراز ما يلائم وجهات نظرهم وتغييب ما تناسب مع العقل والمنطق، لذا فإن المبادرة لحمل لواء التحريض أو دفع الشباب إلى المغامرة ينبغي أن يتوقف، لسببين: أولهما أن لدينا من المشكلات ما يستحق المناقشة وإبداء الآراء، والآخر يتصل لبعدنا عن الظروف التي تعاني منها تلك البلدان التي نتمنى لها الاستقرار والرخاء، فأهل مكة أدرى بشعابها، أستغرب أن يتحول بعضهم إلى محلل يناقش تفاصيل الأمور، وهو لا يجيد ذلك، وأخيرا أرى أن العودة إلى تجارب سابقة في التحريض ودفع الشباب إلى مغامرات لا تحمد عقباها لن يكون في مصلحة بلادنا، ولا البلدان الأخرى.