كتبت هنا في هذا المكان أكثر من مقال.. وكررت الحديث أكثر من مرة عن موضوع المهن الجديدة التي سيفرضها علينا العصر.. وما يترتب على ذلك من تلاش للوظائف القديمة، مما يضع عبئا كبيرا على مؤسسات التعليم لدينا في تغيير مسارات الدراسة والتخصصات فيها بما يتماشى مع العصر.. ونوقش في مؤتمر12 في دبي هذا العام أن وظائف كثيرة ستختفي مع حلول عام 2020، وطرحت أسئلة مهمة من نوع: هل تعرف الحكومات العربية هذا؟.. العالم الذي نعيشه والعالم القادم مختلف ومتغير تماما، ويتطلب من مؤسسات الإعداد أن تتغير بالمثل، وأن تعيد تعريف نفسها وتغير أهدافها ورسالتها ومهامها. خبراء التقنية يقولون إن المهن الحالية ستختفي بحلول عام 2020، بسبب تسارع تقدم العصر إلى درجة مخيفة، ويأتي هذا التسارع نتيجة التنافس الاقتصادي بين الشركات المتخصصة في تقنيات المعلومات والتواصل وكل ما يتعلق بهذا العصر. ويقولون أيضا إن ما سيؤول إليه العصر قد يكون مدمرا، ما لم نحسن التوقع ونعرف المراحل الآتية التي سيأخذنا لها هذا العصر، وبالتالي نعرف تماما السلبيات والإيجابيات ليتم تعزيز الإيجابيات والاستعداد للسلبيات وأخذ الحيطة للنتائج التي سنواجهها لا محالة. هناك الكثير من السلبيات المدمرة، لكن ما يهمنا هنا في هذا المقال هو ما يتعلق بالمهن. ومن الحكمة أن نصغي لما يقوله العلماء والخبراء. والأولى بالإصغاء المسؤولون عن المهن والتأهيل والتدريب من وزراء ورؤساء مؤسسات ومراكز البحث والتقنية في بلادنا، حتى لا يحاكمهم المجتمع والتاريخ على قصور رؤيتهم وخمولهم وعبثهم، فالتاريخ لا يرحم الكسالى والمقصرين والخاملين والعابثين. ولا نريد أن نفاجأ بواقع مرير يضعنا في ذيل القائمة.

لا بد أن يكون هناك استنفار من الجامعات ومؤسسات البحث ومراكز التدريب الحكومية ليقولوا لنا أولاً إلى أين نحن سائرون، وذلك على ضوء تحذيرات علماء التقنية الذين ما فتئوا يحذروننا صباح مساء من أن العصر يأخذنا إلى مراحل جديدة بالكامل، ولا بد من الاستعداد لها.. ثم بعد أن يقولوا لنا إلى أين نحن سائرون يقولوا لنا ما هي استعداداتهم في تغيير نمط التأهيل والتدريب والتعديل والتطوير في مسار التخصصات والمناهج ومنها الجامعية تحديداً.

سوق العمل الذي كان في نهاية الألفية الثانية، لم يعد سوق العمل بعد مرور ثلاثة عشر عاما من الألفية الثالثة. لقد تبدلت مجالاته واختلفت متطلباته، وأصبحت الشركات والمؤسسات تتطلب تأهيلاً مختلفاً وسيزداد تبدل ذلك التأهيل واختلافه مع مرور العصر. المشكلة العاجلة التي أراها أن الحكومات لن تعود قادرة على التوظيف.. ولا بد من مساهمة القطاع الخاص.. والقطاع الخاص لن يقبل أن يكون ضماناً اجتماعياً ويوظف من لم تكن مؤهلاته في مستوى التحديات التي تواجه مؤسسات القطاع الخاص وتهدد بقاءها.. ولذلك لا مجاملة في التوظيف في القطاع الخاص.. وكنت قد ذكرت في مقالة سابقة أن الحكومة الأميركية قد شكلت فريقَ عملٍ برئاسة رئيسة جامعة MIT السابقة سوزن هكفيلد، وأعضاؤه من الحكومة الفيدرالية والأكاديميين والصناعيين لتقديم خطة لتحقيق هدفين، الأول: تدريس ما أسموه المهارات المتقدمة Advanced Skills التي تتطلبها الصناعات الجديدة التي ظهرت في هذا العصر في الجامعات، وتغيير المناهج وفقا لذلك. والهدف الثاني: تدريب القوى العاملة (على رأس العمل In-service Training) ) في المصانع والمعامل على تلك المهن.. وتم بالفعل تحديد تلك المهارات وكلفت كليات المجتمع في طول الولايات المتحدة الأميركية وعرضها بهذه المهمة، وبدؤوا بتدريب 500 ألف عامل، لأن المخططين قرروا أنه لا يمكن المنافسة عالميا بموظفين وعمال ومناهج تعليمية بنيت قبل عصر العولمة، أو قل قبل حلول الألفية الثالثة.

العالم يواجه تحديات كبيرة والأذكياء فقط هم الذين لا يفجؤون بمستجدات العصر وخصوصاً تلك التي تؤثر سلباً على المجتمعات.. نحن نحضر المنتديات والمؤتمرات ونسمع ونعي تماماً كل ما يقال فيها، إلا أن السؤال الكبير الذي نطرحه هنا هو: إلى أي مدى نستجيب لما سمعناه ووعيناه؟ إنني هنا أوجه نداء.. بل أصرخ بأعلى الصوت للوزراء المعنيين أن يكونوا في مستوى مسؤولياتهم ومستوى تحديات العصر. فالعلماء والخبراء الذين يتحدثون (كعلماء) لا يمزحون عندما يقولون إن معظم المهن الموجودة الآن في سوق العمل ستختفي في عام 2020م.. وليس لهم مصلحة في نشر الذعر بيننا، لكنهم يؤدون مسؤولياتهم كعلماء، ويتحدثون للعقول الواعية الجادة المنتجة والمنجزة ليقولوا لهم: "انتبهوا".. هذا هو واقعكم القادم..لا نريد أن نتصرف كردات أفعال.. ردات الأفعال مكلفة جداً ونتائجها مدمرة جداً.. لأنها تستهلك وقتاً لا نملكه.. الوقت هو العدو الأول للإنجاز.. فإذا تفاجأنا بالمشكلة فكم من الوقت نحتاج لندرسها؟ وكم من الوقت نحتاج لمعرفة العلاج بعد أن نعرف الأسباب التي اتضحت لنا بعد الدراسة؟ ثم كم من الوقت نحتاج للعلاج نفسه؟.. وقت طويل سيمر تاركاً وراءه تدميرا لا يحتمل.. الآن حان الوقت أن نسمع وأن ندرس وأن نعرف المشكلة والحل، ونطبق الحل لنكون مسايرين للعصر، متصالحين معه.. العصر الحديث، عصر العولمة قادم بقوة وبشراسة إلى درجة لا يمكن مقاومتها، لذلك يجب أن نتصالح معه بدلاً من مواجهته.. يقول الخبراء إن من يقف في وجه العصر محاولاً المواجهة سيكون مصيره التدمير، ويوصون بالتصالح. والتصالح يتطلب المعرفة والحلول والمسايرة حتى نكون مجتمعاً في مستوى العصر..

وخلاصة القول: يحذرنا علماء العصر أن مهننا القائمة الآن في سوق العمل، سواء منها ما كان عاماً أو خاصاً ستتبدل، وأن معظمها سيختفي.. والسؤال الكبير: هل مؤسساتنا الخاصة بالإعداد والتأهيل والبحث تعرف ذلك؟ وإذا كانت تعرفه فهل هي مستعدة للمسايرة؟ إنها ليست معلومة.. إنه تحذير.. وقد أعذر من أنذر.