الترحيب الأوّلي العام بقرار قصر الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء، ما كان مصدره التوافق و الإجماع التامّ على آراء العلماء أعضاء الهيئة، ولا الانزعاج من تطيّـف المفتين وتنوّعهم. ذاك الترحيب كان مصدره هو التوافق بين الإسلاميين والليبراليين على نقطة وحيدة وهي الرغبة في استغلال طاقات القرار في إخراس الآخر، وقد كانَ هذا واضحاً في القراءات الأولى له، المُرحّبة و المتحمسة لتطبيق القرار عاجلاً، و حصراً و تحديداً على (الآخرين). لهذا تطوّرت التعليقات على القرار لاحقاً إلى قراءات متسائلة، في نوعٍ من التراجع والانتباه المتأخر للوجه الآخر للقرار الذي يمكن أن يوظف بحيث يمسّ مصالح كل توجّهٍ فيما يتعلق بحرية الكلام والكتابة والنشر في الشأن الفقهي. هذه الحالة ككل هي إحدى نماذج غَلَبة القراءة المصلحية الآنيّة والسطحية للمواقف والقرارات، على القراءات الجوهرية المبدئية. بل كان من الطريف ملاحظة انقلاباتِ المعلقين على بعض القضايا الأساسية المعتادة بالنسبة إليهم، كالمعلق الإسلامي الذي عجّل بكتابة ديباجة مُرحّبة لكنها لا تتضمن أيّ مناقشة للفكرة على المستوى الشرعي، ناهيك عن تراجع الهموم حول حرية "نقد الخطاب الديني" في تعليقات كُتاب الصحف. ولأن المصلحة الآنية تتغيّر، والقراءة السطحية ترتبك عندما تواجه الأبعاد الأخرى و التداعيات، فإن المُعلق يجد ذاته لاحقاً في حالة تراجعٍ صامتة أو معلنة، لكن الأهمّ هو أن المواقف تنتهي و القرارات تمرّ دون أن تتعرّض لما تستحقه فعلاً من قراءة جوهرية.

كان مما لاحظتهُ أيضاً على بعض التعليقات الصحفية دخولها في مزاج فريد و تاريخي من مديح المؤسساتية وهجاء الانفراد بالرأي. والفريد والتاريخي في الأمر هو من الجانب الأول، غياب هذا المزاج عادة عند التعليق على قضايا أخرى شديدة القابلية للمأسسة وشديدة الحاجة لها، وهو من جانبٍ آخر حماسٌ لمأسسة حقل مُعقد جداً كالفتوى، تمتزج فيه حرية الرأي بالثقافة السائدة بتطوّر وسائل النشر والاتصال، مروراً بكياناتٍ اقتصادية وإعلامية وأنشطة جماهيرية ومواسم سنوية، و وصولاً إلى تقاليد معرفية واجتماعية، دون أدنى جدّية في معالجة الإشكاليات التي تثيرها فكرة مأسسة هذا الحقل المعقد، لهذا اضطر هذا الحماس إلى القفز فوق عديد الإشكالات العملية والأسئلة التي يثيرها قَصر الفتوى، أو الاتكاء على ابتكار مقولة تفرّق بين الرأي و الفتوى، الأمر الذي جعلني أتساءل طوال الأيام الماضية، كيف يمكن تصنيف كتاب "جواز صلاة الرجل في بيته" مثلا ً؟ حاول بعض المعلقين – التنفيذيين خاصة – معالجة الأسئلة حول آليات التنفيذ أو أنواع العقوبات أو المشمولين بالقرار، إلا أن أهمّ سؤال ظلّ دونما إجابة.

عندما كنتُ أتابع خلال هذا العام معركة النقاب في فرنسا، كنتُ أتساءل حول قدرة القانون على توفير معالجة حقيقية للقضايا – الأزمات التي تتعلق بالرأي والاعتقاد والقناعات في ظل عولمة ثقافية وتطور اتصالاتي. الحالة الفرنسية تحمل الكثير من العناصر الجوهرية لهذا الموقف النمطي: فهي تمثل انتشار ظاهرة اجتماعية غير محبذة في محيطها، لكنها أيضاً غير ممنوعة بل وتستند على شرعية يكفلها لها القانون أو العرف، مخدومة بتنوع وسائل الاتصالات وانفتاحها على مصراعيها أمام الثقافات العابرة للحدود. بعد إقرار قانون منع النقاب اكتسبت الفرنسيات المتمسكات لا بالنقاب وحسب بل وبالصيغة السعودية من النقاب (عباءة سوداء... إلخ)، اكتسبنَ الهالة النضالية التي يحصل عليها أيّ شخص بسهولة في المناخات الليبرالية، عندما يُحرم مما يتمتع بهِ الآخرون: حقه البسيط في ممارسة قناعاته دون الإضرار بالآخرين. وعندما خرج لاحقاً رجل أعمالٍ فرنسي جزائري بفكرة التكفل بدفع مبالغ الغرامات نيابة عن المنقبات ليتمكنّ من مواصلة الانتقاب، كان هذا شاهداً إضافياً على عجز القانون المحض عن معالجة القضايا المتعلقة بالرأي والإيمان والقناعة، فالعقوبة يمكن تدبّر أمرها، بالتحايل أو الالتفاف و بتعضيدٍ من جموع المؤمنين بالنقاب أو المؤمنين بالحقوق الإنسانية، أو حتى الذين لا يؤمنون بشيء لكن تستفزهم هيمنة الكيانات السياسية على الدولة. أما الممنوع فيتحول إلى مناضلٍ و فعلٍ نضالي. بينما يظل فضاء الاتصالات المفتوح يخدم تسويق الظواهر الاجتماعية غير المرغوبة من حيث هي أفعالٌ نضالية تتحدى القمع، و يضخ المزيد من المركبات الثقافية العابرة للحدود. من الغريب أن تتطوّع الكيانات السياسية لاستحثاث هذا المزاج النضالي في وقتٍ تنحسر فيه مفاهيم النضال وأدبيات الحركات السرية والمنشورات الممنوعة، لصالح المواجهات الإعلامية العلنية والحملات المنظمة في النور و تفكيك المضامين والاعتماد على الخطاب العقلاني الموجه إلى مواطن متمدّن وعقلاني (يُفترض!). هذه النتيجة المركبة من العجز عن معالجة المشكل الأصلي وخلق مشكلٍ إضافي جديد؛ ليست نتيجة صُدَفيّة. إنها النتيجة المناسبة لأسلوب المعالجة غير المناسب: مواجهة ما هو ثقافي بقوة القانون. النقاب قناعة و ما زلت لا أفهم لمَ يُمكن (إقناع) النساء الفرنسيات بالانتقاب لكن لا يمكن (إقناعهنّ) بالحجاب دون نقاب؟ و بصورة أشمل: ما زلت لا أفهم لماذا يمكن نشر و تسويق أيّ نوعٍ من الثقافات لكن لا يمكن نشر و تسويق ثقافة مضادّة أو مُختلفة؟ على وجه الدقة، يمكنني أن أفهم أن مواجهة الممانعة الثقافية بقوة القانون تبدو أسرع الحلول، و هو فعلٌ سريع حقاً، لكنهُ ليسَ حلاً.