"لو خيرت بين أن تصيب بلدي جائحة أو أن تصيب المدينة لافتديت المدينة بالشام ومن فيها".. بهذه الكلمات عبر الشيخ علي الطنطاوي عما يخالج نفسه ووجدانه تجاه مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث احتلت المدينة المنورة منزلة عظيمة في حياة الشيخ الطنطاوي وسيطرت على مساحة كبيرة من مذكراته التي جاءت في 8 مجلدات ختم بها نشاطه في التأليف.

الباحث في تاريخ المدينة المنورة الدكتور إبراهيم الألمعي استرجع مع "الوطن" مذكرات الطنطاوي قائلا: عبر الطنطاوي عن حبه للمدينة في مواضع كثيرة, وبأساليب متعددة, فهو كثيرا ما يقارن بين المدينة المنورة وبين دمشق التي نشأ فيها ودرج في ربوعها, وأحبها ثم تأتي نتيجة المفاضلة لصالح المدينة المنورة, ما يعطي صورة واضحة لموقعها في نفسه.

ويضيف الألمعي: مع أن الطنطاوي استقر في مكة المكرمة وعاش فيها 35 عاما قدم خلالها برامج إذاعية وتلفزيونية تعد الأطول عمرا في تاريخ برامج الإذاعة والتلفزيون إلا أنه يعد من الرحالة العرب، وكتاباته عبر رحلته الأولى للمدينة مرجع للباحثين والمؤرخين في تاريخ المدينة المنورة، قدر للطنطاوي أن يكون أحد المسافرين في أول رحلة بالسيارات من دمشق للمدينة (بعد دخول السيارات للشام) وينقل عن الطنطاوي قوله إن الهدف من تلك الرحلة التي استمرت شهرا تقريبا عبر طريق بري غير ممهد فتح طريق للسيارات يربط دمشق بمكة ليسهل للحجاج والمعتمرين طريقهم للحرمين الشريفين وكانت أول سيارة تطأ الصحراء لتعلن بدء قدوم قوافل الحجاج والمعتمرين بالسيارات بين المدينة المنورة والشام.

وبقيت ذاكرة الطنطاوي تروي تفاصيل رحلته الأولى للمدينة عام 1935 عبر مذكراته بأسلوب بليغ فيه من القصص واللطائف والفكاهات ويقول في كتابه "إلى أرض النبوة" (سافرنا في أول رحلة عن طريق السيارات، استمر العناء والتعب المتمثل بتكرار غوص سيارتهم بالرمال ومكابدة إخراجها للاستمرار في طريقنا للمدينة 22 يوما عبر الصحاري والقفار التي تفصل بين دمشق والمدينة وما كان يخفف عنا هو الشوق والحنين والمحبة الجارفة تجاه الحرمين، وعرج الباحث على تحسر الطنطاوي على خط سكة الحديد العثمانية التي كانت تصل بين الشام والمدينة التي دمرت بما يسمى الثورة العربية الكبرى بعد معاناة سفرهم الأول.

ويبين الألمعي أن الطنطاوي دون مشاهداته بدقة ووصف أقرب للتصوير، طريق سفرهم ومحطات توقفهم في القرى والهجر والمعالم والآثار حتى دخولهم المدينة مما دفع كثيرا من الباحثين للرجوع لمذكراته والاستشهاد بها كمصدر يوثق المواقع التاريخية والجغرافية للمدينة في ذلك العهد.

ووصف العلا (محافظة العلا) في كتابه (من نفحات الحرم/135)عند مروره بها عام 1935 بقوله: هي قرية صغيرة جميلة تقوم في واد ضيق, تحف به جبال جميلة وممتعة ذات أشكال غريبة, ولون أكثرها أحمر مخضر جميل فيها العيون والسواقي والأشجار, وأمتع ما رأى في القرية النواعير (السواني) ذات الصوت الموسيقي الفاتن, ولقد حسبتها في سكون الليل نايا أو آلة موسيقية فسألت عنها فأخبروني أنها النواعير.

وأضاف ومما يعتاده زوار المدينة والباحثون في تاريخها وآثارها التي ارتبطت في الذاكرة بموقف وشخصيات أديبة, وأولها وادي العقيق بعبقه التاريخي والأدبي، حيث يقول الطنطاوي في وصف خروجهم إليه: والسيل يملأ ما بين عدوتيه: خرجنا مع من خرج, فلم نجاوز السور, ونترك عن أيماننا المحطة العظيمة (سكة الحديد العثمانية) حتى بدت لنا (الحرة) السوداء الواسعة, فسلكنا طريقا فيها جديدا, على يسار الطريق القديم الذي يهبط بالحرة, على سلم منقورة في الصخر, وهذه النقرة هي ثنية الوداع التي طلع منها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبلته الأوائل بالدفوف ينشدن طلع البدر علينا... وسرنا في هذا الطريق نحوا من كيلين اثنين فانتهينا إلى بئر عروة, التي حفرها الإمام الزاهد العالم عروة بن الزبير, فكانت في قصره العظيم الذي اندثر, ولم يبق له من أثر, وهي أعذب بئر في المدينة وأطيبها, وكان ماؤها يحمل إلى الخلفاء وهم في دارات ملكهم, ويؤثرونه على ينابيع الشام وفرات العراق, إلى جانب البئر قهوة جديدة, قامت على جذوع النخل, فجلسنا على كراسي مستطيلة, تتخذ في (مقاهي) الحجاز مجلسا وسريرا نطل على الوادي العظيم وعن بديع وصف الطنطاوي نقل الباحث شيئا من وصفه لمقبرة البقيع وظروف خروجهم إليه بقوله: خرجنا إليه (يعني البقيع) في صفرة الطفل, وقد سكرت الريح, وسجا المساء وكان اليوم روحا, فما تجاوزنا أزقة المدينة الضيقة الملتوية وبدا لنا سور البقيع الهائل فتهيبت دخوله لما رأيت فيه من وحشة وظلمة ليس فيها بناء ولا قبة غير أن ما كان يؤنسنا مرشدنا الذي دلنا على قبور الصحابة متعجبا من دقته وحفظه في معالم البقيع.