في خمسينات القرن الماضي أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن جوريون توجها للسياسة الخارجية الإسرائيلية عرف فيما بعد بـ"تحالف الأطراف" (Periphery Alliance)، وهو التوجه الذي سعت إسرائيل من خلاله إلى بناء منظومة تحالف بينها وبين دول الأطراف في المنطقة العربية (إيران وتركيا وإثيوبيا)، وذلك لمواجهة تكتل الدول العربية ضدها. نجحت تلك السياسة في تحقيق بعض النجاحات إلى حد ما، ففي ذلك الوقت كانت كل من تركيا وإيران هما الدولتين المسلمتين الوحيدتين اللتين اعترفتا رسميا بدولة إسرائيل. كان شاه إيران يسعى إلى لعب دور "شرطي المنطقة"، وهو الأمر الذي دعاه لبناء تحالف سياسي موسع مع إسرائيل، ومن جهة أخرى كانت تركيا المندفعة بقوة نحو بناء نموذج غربي للدولة تسعى إلى فك الارتباط مع العالم العربي وبالتالي وجدت في إسرائيل منفذا لتحقيق هذا التوجه.
تفكك هذا التحالف لاحقا مع الثورة الإيرانية عام 1979، ثم مع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل حيث تغيرت صيغة الأهداف الاستراتيجية المتوخاة من العلاقة الإسرائيلية الإثيوبية. بقيت تركيا فقط ضمن عقد هذا التحالف شريكا أساسيا لإسرائيل في المنطقة، إلا أن التغيرات الأخيرة التي طرأت على توجهات السياسة الخارجية التركية منذ مجيء حزب الحرية والعدالة سواء فيما يتعلق برؤية تركيا للمنطقة أو الأزمات التي نشأت بين تركيا وإسرائيل كلها عوامل دفعت إلى انهيار الشريكين المتبقيين من تحالف الأطراف التاريخي.
تشير المؤشرات اليوم إلى أن إسرائيل تسعى إلى بناء "تحالف أطراف" جديد قائم على توسع في تقييم أطراف المنطقة، وأن هذا التحالف الذي تسعى إليه إسرائيل قائم على ثلاث دول: اليونان والهند وأذربيجان، فتطور العلاقة الإسرائيلية مع كل من الدول الثلاث مؤشر واضح على أن إسرائيل تسعى إلى التكيف مع محيطها الاستراتيجي، وكذلك لمحاولة بناء طوق من الدول يعمل على احتواء تغير العلاقة الاسرائيلية مع دول تحالف الأطراف السابقة بالإضافة إلى الدول العربية.
أولا: اليونان: تطورت العلاقة الإسرائيلية – اليونانية بشكل كبير بدءا من عام 2010 عقب أزمة أسطول الحرية وتداعياتها على العلاقة الإسرائيلية – التركية، فالعلاقة اليونانية – التركية طالما كانت متأزمة على خلفية الخلاف بين البلدين حول قبرص، ويمكن القول إن العلاقة تصل حد العداء. هذا الأمر يفسر الاندفاعة في العلاقة بين إسرائيل واليونان وخاصة على صعيد التعاون العسكري سواء في شراء الأسلحة الإسرائيلية أو في التدريبات المشتركة. على صعيد آخر جاءت الاكتشافات الجديدة لحقول الغاز في شرق البحر المتوسط لتضع أساسا اقتصاديا للعلاقة بين البلدين خاصة في ظل وجود مطالب تركية في هذه الحقول.
ثانيا: الهند: رغم أن الهند كانت تاريخيا أحد رواد حركة عدم الانحياز ولم تنشئ علاقات دبلوماسية مع إسرائيل إلا في عام 1992، إلا أن مسار تطور العلاقة منذ ذلك الوقت أخذ منحنى صاعدا وخاصة على صعيد التعاون العسكري حيث باتت إسرائيل ثاني أكبر مصدر للأسلحة إلى الهند بعد روسيا. إسرائيل من خلال علاقتها بالهند تسعى إلى إيجاد موازن لأي دور باكستاني في المنطقة وخاصة في ظل التحالف العسكري بين المملكة وباكستان، ومن ثم فإن العلاقة الإسرائيلية – الهندية هي في جزء منها احتواء لعلاقة باكستان مع السعودية.
ثالثا: أذربيجان: تطورت العلاقة الإسرائيلية – الأذربيجانية من خلال وجود خطر مشترك للطرفين يتمثل في إيران، وتشكل أذربيجان لإسرائيل المنصة الأكثر ملاءمة للعمل على احتواء الخطر الإيراني عليها. واليوم تأتي 40% من واردات إسرائيل النفطية من أذربيجان، كما أن التعاون العسكري بين البلدين تطور بشكل لافت حيث قامت أذربيجان بشراء أسلحة إسرائيلية بقيمة 1.6 مليار دولار عام 2012 تضمنت منظومة صواريخ دفاعية وطائرات من غير طيار. ومؤخرا توارد الكثير عن حرب الاستخبارات التي يشنها جهاز الموساد ضد إيران من باكو عاصة أذربيجان.
لقد مثلت كل من إيران وتركيا وإثيوبيا خلال الخمسينات العنصر غير العربي في المنطقة، وهو العامل الذي سعت إسرائيل إلى الاستفادة منه في حينه. إلا أن التغيرات في المنطقة دفعت إسرائيل إلى التوسع أكثر في مفهوم الأطراف نحو دول غير إسلامية بالأساس، ويشير إلى هذا الأمر بصورة أكبر تطور العلاقة الإسرائيلية – الروسية، حيث تمثل روسيا ظهيرا أكبر من أذربيجان فيما يتعلق بالحفاظ على الأمن الإسرائيلي مقابل إيران.
إن نشوء تحالف أطراف جديد يطوق العالم العربي قد لا يشكل تهديدا مباشرا، ولكنه في المقابل يعكس ضعف السياسة العربية في احتواء أطرافها مقابل نجاح إسرائيل في ذلك. قد يرى البعض أن احتمالات نشوء هذا التحالف بعيدة المنال خاصة أن الرابط بين دوله هش جدا، كما أن اليونان وأذربيجان على سبيل المثال لا يمثلان بأي حال من الأحوال موازنا سياسيا بحجم كل من تركيا وإيران سواء كان اقتصاديا أو عسكريا. إلا أن النقطة الأهم في كل هذا هو الإشارة إلى قدرة إسرائيل على التكيف مع محيطها الاستراتيجي بشكل سريع وفعال، وبطريقة تعكس دينامية سياستها الخارجية، وهو الأمر الذي ينبغي علينا التنبه له وكذلك النظر إليه بعين الاستفادة، فقدرة التكيف السريع هذه تستلزم وجود آلة فعالة للسياسة الخارجية قادرة على تغيير اتجاهاتها بحسب الظروف وببراجماتية عالية في الأداء. هذه النقطة تحديدا هي ما يبدو أن السياسات الخارجية العربية لا تزال تفتقدها.