صدرت في شهر سبتمبر الماضي دراسة جيدة بعنوان: "مظاهرات العالم 2006-2013" (world protests) لأربعة باحثين (إيزابيل أورتيز، وسارة بورك، ومحمد برادة وهرنان كورتيس) قاموا فيها بعملية مسح شامل لكل المظاهرات التي حدثت في العالم في الفترة من 2006 إلى يوليو 2013. وطبقا للدراسة فإنه وقعت في الفترة المذكورة 843 مظاهرة في 87 دولة (تمثل مجتمعة أكثر من 90% من سكان العالم).

تعد النتائج التي خلصت لها الدراسة جديرة بالتأمل، كونها تكشف عن حقائق جديدة وتؤكد حقائق أخرى، خاصة أن العالم يبدو وكأنه يتجه نحو فترة جديدة من انتشار موجة التظاهر والمطالبات الشعبية بالتغيير على غرار فترة منتصف الستينات الميلادية، فمنحنى المظاهرات حول العالم بات يأخذ شكلا صاعدا. في 2006 وقعت 59 مظاهرة فقط حول العالم، بينما في الأشهر الستة الأولى من 2013 وقعت 112 مظاهرة. ولا يتعلق الأمر بأعداد التظاهرات وإنما بحجمها، فالدراسة تشير إلى أنه حدثت 37 مظاهرة خلال الفترة المذكورة تجاوز عدد المتظاهرين فيها حاجز المليون شخص، وعام 2013 شهد أضخم مظاهرتين في تاريخ العالم (100 مليون في الهند، و17 مليونا في مصر، طبقا للدراسة).

إن موجة المظاهرات التي تعم العالم تحمل في طياتها متغيرات فيما يتعلق بالتظاهر نفسه، فالمسح الذي قامت به الدراسة كشف أن حالات العنف والسرقة لم تحدث إلا في 75 مظاهرة فقط (أي حوالي 8.9% من المظاهرات التي عمت العالم)، وربما يعود هذا الأمر لتغير طبيعة المتطاهرين حول العالم، فما كشفته الدراسة أيضا هو تحول نمطي في نوعية المتظاهرين من القطاعات التقليدية (الناشطين والنقابات والطلاب) إلى قطاعات غير تقليدية (الطبقات الوسطى وكبار السن والقطاع الأوسع من الشباب العامل). كما كشفت الدراسة أنه على عكس وجهة النظر القائمة فإن أغلب المظاهرات التي حدثت حول العالم في الفترة المذكورة لم تكن في الدول الفقيرة، فأعلى نسبة مظاهرات كانت في الدول ذات الدخل المرتفع (higher income countries) بواقع 304 مظاهرات، بينما كان نصيب منطقة الشرق الأوسط وحتى خلال الربيع العربي 77 مظاهرة، وأقلها منطقة جنوب آسيا بواقع 43 مظاهرة فقط.

لقد اكتشف الباحثون أن المظاهرات تحدث تحت أحد أربعة عناوين رئيسية للمطالب أو أسباب الغضب، كالتالي:

1- العدالة الاقتصادية: وهي المظاهرات التي تتعلق بالمطالبة بإصلاح القطاع العام أو الوظائف أو الفقر ومستوى المعيشة أو أسعار الغذاء والنفط أو سياسات التقشف، وغيرها من المطالب الاقتصادية المتعلقة بالعدالة في هذا الجانب.

2- فشل الأنظمة السياسية: وهي المطالب المتعلقة بالديموقراطية أو العدالة القضائية أو الفساد أو الشفافية والمحاسبة، وغيرها من المطالب السياسية.

3- العدالة الدولية: وهي المطالب المتعلقة بالنظام الدولي، كالمظاهرات المعارضة لمنظمة التجارة الدولية أو مجموعة العشرين، أو المطالب البيئية، وغيرها من القضايا المشابهة.

4- حقوق الأشخاص: وهي المظاهرات المتعلقة بمطالب حقوقية معينة، كحقوق الأقليات أيا كانت، أو الحقوق العمالية أو حقوق النساء والحريات الشخصية، وغيرها من المطالب المتعلقة بهذا الجانب.

واللافت للنظر أن أكثر المظاهرات حول العام تعلقت بالمطالب الخاصة بالعدالة الاقتصادية بواقع 488 مظاهرة، بينما جاءت المطالب السياسية بواقع 376 مظاهرة، ومطالب العدالة الدولية بواقع 311 مظاهرة، بينما المطالب المتعلقة بحقوق الأشخاص302 مظاهرة. ورغم أن المطالبة بالديموقراطية تحديدا كانت الأعلى عددا ضمن كل المطالبات الفرعية (بواقع 218 مظاهرة)، إلا أن اللافت الذي كشفته الدراسة هو أن المطالبة بالديموقراطية كانت بسبب ربط الناس للعدالة الاقتصادية بالديموقراطية، فالمطالبة بالديموقراطية هنا كانت في واقع الأمر بسبب رؤية الناس أن ما يعوق تحقيق العدالة الاقتصادية هو النظام السياسي، ومن ثم فإن الديموقراطية أصبحت بالنسبة للسواد الأعظم هي المدخل نحو المزيد من العدالة الاقتصادية. ويؤكد هذا الأمر التغير في نمط أنواع المتظاهرين، حيث باتت المظاهرات في السنوات الأخيرة تجذب أبناء الطبقات الوسطى والقطاعات التي لم تكن في السابق من المتظاهرين التقليديين.

إن نتائج هذه الدراسة تعيدنا للحقيقة البديهية التي عبر عنها الإعلامي الأميركي جيمس كارفيل الذي قاد حملة ترشح الرئيس السابق بيل كلينتون في جملته الشهيرة "إنه الاقتصاد يا غبي" (it's the economy, stupid). فما يحرك الشعوب والجماهير في نهاية المطاف هو الحالة المعيشية لهم، والمطالبة بالديموقراطية في حقيقة الأمر هي نتاج تحرك الطبقات الوسطى في المجتمعات عندما تبدأ بالشعور بأنها تحت ضغوط حقيقية، وأن النظام السياسي يعيق العدالة الاقتصادية ولا يكبح الفساد أو يتيح المحاسبة. هذه الحقيقة هي ما يجب أن تعيها النظم السياسية وخاصة العربية، فالربيع العربي في جوهره يعبر بجزء كبير عن غضب الجماهير من الحالة الاقتصادية، والذي تُرجم لمطالب سياسية عريضة.

في المقابل فإن تحقيق الاستقرار لأي نظام سياسي يعتمد في جزء كبير على تحقيق العدالة الاقتصادية للشعب وخاصة من خلال توسيع وتثبيت قاعدة الطبقة الوسطى في المجتمع. دول الربيع العربي واجهت هذا الأمر عندما بدأت طبقاتها الوسطى بالتآكل نتيجة عدم عدالة التنمية الاقتصادية وارتفاع نسب الفساد، رغم أن دولا مثل مصر وتونس حققت نسبا مرتفعة من النمو الاقتصادي قبل ثوراتها، وهذا الأمر درس مهم يجب التنبه له.

تعد سنغافورة – على سبيل المثال – دولة غير ديموقراطية، أو بالأصح ديموقراطية-استبدادية (authoritarian democracy)، كما يطلق عليها في الأدبيات السياسية، فهي تحكم منذ منتصف الستينات وإلى اليوم من خلال حزب واحد لم يتغير ويسيطر على مقاليد السياسة هناك، وحكمها رئيس الوزراء لي كوان يو ما يقارب من 30 عاما متواصلة، واليوم يحكمها ابنه الأكبر الذي يتولى منصب رئيس الوزراء، ومع ذلك فعلى مدى 60 عاما منذ استقلال سنغافورة لم تخرج مظاهرة واحدة تطالب بإسقاط النظام، بل وتعد سنغافورة خامس دولة في العالم في ترتيب الدول الأقل فسادا طبقا لتقرير منظمة الشفافية الدولية، وواحدة من أعلى 10 دول في العالم بالنسبة لمتوسط دخل الفرد. وعندما جاء ربيع الديموقراطية للدول العربية كانت سنغافورة إحدى الدول التي توجهت لها وفود تلك الدول لاستلهام التجربة.. إنه أمر جدير بالتأمل.