بين القول والفعل مساحة كبيرة، وأرض واسعة، وسماء شاهقة، والفرق أن الأول يسهل أداؤه فيما الثاني يصعب إحضاره.

والكلام فعل أيضاً على وفق الدراسات اللسانية، والأفعال الكلامية هي أفعال تعريفية، وتفسيرية، وتأويلية، وشارحة، وتركيبية، وهي تصف الأفعال أو تدعي الإيمان بها، ولكن لا يمكن لها تنفيذها.

أما الأفعال فهي أحداث، وهي حقيقة، وواقعة، وحاصلة، وحاضرة، ومؤثرة، وفاعلة، وناجزة، ونافذة، ومغيرة، وهي مجردة من الوصف.

وقد يسبق القول الفعل ويمهد له، وقد ينتج الفعل من "اللا متوقع"، فيبهر ويعجب ويفاجئ.

والأفعال التي تتحقق من الأقوال أقل من الأفعال التي تنبثق من الصفات، وكل حامل صفة هو فاعل لها، وكل مدعي صفة ليس بممارسها، ومن هنا تأتي المشكلة وتصادفنا العلة، والذي يفعل كلامياً أسهل من الذي يفعل صفةً ومضموناً، ولننظر في الأمر:

إن قلت على سبيل المثال إنني أقبل الاختلاف فهذا لا يعني أنني بالفعل أقبله، والقول لا يمثل ما أفعله على أرض الواقع، وما دامت صفة "قبول الاختلاف" ليست من ضمن صفاتي لن أفعلها، وحتى ولو قلت مراراً وتكراراً إنني كذلك، ومن السهل ادعاء صفة معينة، ومن الصعب تمثلها كفعل.

إن من الصعوبة بمكان تقبل الاختلاف، وهي إمكانية تواصل وتقنية تبادل لا تتأتى للقائل بها فقط، بل لمن يشتغل على نفسه بشكل كبير وبصورة مستمرة ومتواصلة، ولا يمكن لأحدنا بمجرد أن يقول: "أنا أقبل الاختلاف" أن يكون فعلاً وواقعاً كذلك، وكم كذبتني الأحداث "أنا شخصياً"، وكم كنت إقصائياً ومتطرفاً في كثير من حواراتي ونقاشاتي.

ما الذي يعنيه ذلك؟

يعني أن الاشتغال على الذات مهمة ليست بسهلة، ومطلب ليس ببسيط، وأن الأقوال لا تدل على الأفعال، فيما الأخيرة وحدها تبرهن وتثبت.

الصعب هو الاشتغال على الذات لصناعتها على وفق الأقوال والمفاهيم، التي يدعيها الفرد ويدعو لها، والأصعب هو الوصول لمرحلة التطبيق الفعلي وإنجاز تلك الأقوال كصفات في الذات، ومن السهل القول بحب الآخرين واحترام الاختلاف فيهم؛ ومن الصعب ترسيخ ذلك كصفة وفعل،

كأن يصبح أي فعل إقصائي بمثابة جريمة ذاتية يشعر بها الفاعل تجاه نفسه (وهذه المرحلة صعب الوصول إليها خصوصاً في ظل الثقافة الحالية التي تعزز وتمول الإقصاء على حساب التعدد والاختلاف).

والكتابة رغم أهميتها، أراها ليست بذي قيمة أمام الفعل والعمل، وقد سئمنا الكلام وآن لنا أن نعمل وننجز ونبتكر ونحقق ونفعل، وقد صدع الكتّاب رؤوسنا بالحديث عن المثل والأخلاقيات فيما هم يتحاشون الواقع وإخفاقاته، ويتجنبون مواجهته وعصيانه، وإن واجهوا هشاشته لم يقدموا حلولاً فعلية تنقلنا من القول للفعل، فيبقون في دائرة القول والكلام وترديده فقط.

وذات يوم قلت: "لأننا أمة كلامية فقط، لأننا كلاميون، أعجبنا قول سقراط: "تكلم حتى أراك"، وما أسهل الكلام، وقديماً قال تشارلي شابلن "الكلمات رخيصة، أضخم شيء يمكن أن تقوله هو "فيل".

والكلام لا يمكن أن يدل على الأشخاص، بل أفعالهم، ولذا سأصحح قول سقراط هذا وأقول: "افعل حتى أراك".

ولكي ننتقل من كوننا أمة تعشق الكلام (وصفت بأنها "ظاهرة صوتية") إلى أمة تعشق الفعل وتقيّم على أساسه."

هذا ما قلته، وما أقوله الآن هو أننا بحاجة لكتابة تحضر الفعل من غياهبه وتعطي له الصدارة والأحقية، ولسنا بحاجة لكتابة مزخرفة ومنمقة.

فلنشتغل على ذواتنا ولنكن واثقين من تحول الأقوال والكلمات لصفات فيها، وحتى لا نزدوج فنتحدث خلاف ما نجعل ونقول خلاف ما نصنع ونعمل.

والاشتغال على الذات عملية مستمرة لا تتوقف، ومسؤولية إنسانية لا تنتهي، وكل إنسان هو مسؤول عن جعل ذاته أفضل وصناعتها ومواكبتها ومساءلتها، وهذا العمل شاق ومتعب وممتع في آن واحد، فبه نتحول ومنه نحب وفيه ننتفع، ومنه نتبدل ونتغير.