لم أتوقع أن أسمع ذلك. شعرت أن حديثه بتلك الجدية المخيفة لم يكن سوى ضرب من الهزل.

تلك الليلة، قرع القدر أجراس القلب، ورددت صدى الترانيم جبال الجنوب، وطارت أرواح مجللة بالضياء في الأفق القروي المهيب.

هزتني كلماته العذبة عن زهراء الجميلة، وهو يتغنى بها كلما تقابلنا على أطراف القرية، قبل أن يعود كل مساء إلى أحضان العذاب... كم رجوته أن يهجرها، ولكنه طالما رد علي: دعك من كلام المصلحين. إنهم لا يروننا إلا عندما نقع في وحل الأخطاء. حينها يرمون لنا حبالهم القصيرة طالبين منا النجاة.

لطالما التقيته في قهوة "الكروان".. حيث يركد الزمن فلا يقطع هدوءه إلا أزيز إطارات السيارات، وأصوات العمال المتقطعة هنا وهناك، حيث نشرب الشاي، وننتظر كشيوخ يتوقعون مجيء الأجل. لذلك نتسمر كالتماثيل في مقاعد القهوة.

وفي يوم هده الحمل الثقيل، وتمزق عن قلبه حجاب الكتمان، فبانت الحياه كزهرة ذابلة.تحدث سعيد عما حدث له، فانسابت كلماته كأسراب من نور رقيق ملأت فضاء القهوة. تحدث عن حبه لـ"زهراء"، وكأنه يلقي قصيدة أثيرة ذات ترانيم آسره صاخ لها سمع الأخيار والأشرار، مما لف المكان بخيوط ناعمة قربتنا لبعضنا أكثر. حتى الجبل القاسي خلف القهوة لان واقترب.

ـ يقولون إني مذنب بحبي لزهراء. هل كنت مذنبا يا ربي! ألي في الحب مشيئة؟ لم أكن أعلم قبل أن أراها أن الأرض قد تحتفل بمخلوق فريد. حيث غنى الوادي في طرف القرية لينساب لحن مرح من ورق الأشجار. يا لها من سمفونية عزفتها الأرض والسماء فما حيلتي أنا المخلوق الضعيف غير أن أبهر وأجن بها.

أدركت ليلتها أنني سأغدو شقيا، يبذر عمره في قطف الزهر من رياض العذاب،

التقيتها في الزقاق المؤدي لبيتها لنتوارى عن الأنظار، سيطر الارتباك على نفسي، كنت أستند على الجدار للحظة وأبتعد عنه لحظة أخرى، متحدثا بصوت متلعثم، أما هي فلم تنبس ببنت شفه، لم تمنح اللقاء سوى ضحكات قصيرة ومكتومة. قبل أن ترحل كنسمة عابرة.

بعد أن وجدت الحب في ذلك الزقاق، صرت أشعر كمن يعيش مع النجوم في غرفة صغيرة. هكذا ترى عينا العاشق، أصبح الحب ملكي، وشرعت له أبواب غرفتي. حتى أصوات الناس وحركاتهم، وجريهم خلف أغنامهم وحقولهم، وحزنهم وفرحهم، أضحت صورا قروية تقاسمني غرفتي. أما هي فقد أخذت دور الشمس التي خلصت عالمي من ظلامه الذي ظننته سيبقى أبديا. قلت لها يوما من الأيام وقد زال ارتباكي وسكنت روحي، أنتزوج يا زهراء؟

نظرت نحوي كطفل عابث، ثم انسلت من بين يدي، وهربت إلى بيتها، حاولت اللحاق بها، ولكني تعثرت بحجر وسقطت، تساءلت ليلتها لماذا هربت مني؟

وذات يوم شتوي كئيب تقابلنا في ذات الزقاق لأسالها ثانية متى؟ ولتكتفي بذات النظرة والهروب، حينها أدركت أن قصيدتي طارت مع الرياح، وأن نجومي غادرت غرفتي للأبد. عندها هاجرت أسراب الضياء من القهوة، وعادت الأصوات القديمة.