• أفاق بعد بضعة أشهر من غيبوبته، زرته هنا في أحد مستشفيات جدة. قبّلت رأسه ويده وجلست قريباً منه. وهو يحدّق فيّ، كان جلياً أن شريطاً طويلاً ومشوّشاً، يعبر ذاكرته، تسعون عاماً وربما أكثر تجول في جبينه. عيناه.. ولهما لون عيني أمي وعطفهما، لا تقفان عن الحركة، وكأنهما تنتقلان بسرعةٍ خاطفة من سطرٍ إلى سطر في ورقٍ مزدحم بالأيام. سألته "عرفتني يا خالي؟". لم يقل نعم، بل أجاب بسؤال، كمن يسجّل نقطة يثبت بها ما تبقى من قوّته؛ "كيف حالك؟ كيف حال بناتك؟". هذا الرجل الممدد على فراش التعب، منهكاً من المرض وأيادي الأطباء، هذا الرجل كان إلى سنواتٍ قريبة، بقامةٍ منتصبة، ووجهٍ لا تغادره ابتسامته، يملأ بيوتنا بالسلامات والوصل، بطيب النفس وصفاء السريرة. أما اليوم فلا يكاد يرفع ذراعه! ما أعمقه من ألم حين ترى رجلاً كهذا يذبل!

• في السير أن لبيد بن ربيعة، وهو أحد أشرف الشعراء المخضرمين، الذين عاشوا زمن ما قبل الإسلام وأدركوه، قال وقد امتد به العمر حتى جاوز المئة، وقيل إنه عاش مئة وخمسةً وأربعين عاماً؛ "ولقد سئمت من الحياة وطولها/ وسؤال هذا الناس كيف لبيدُ. غلب الرجالَ وكان غير مُغلّبٍ/ دهرٌ طويلٌ دائمٌ ممدودُ. يوماً أرى يأتي عليّ وليلة/ وكلاهما بعد المضاء يعودُ. وأراه يأتي مثل يوم لقيتُه/ لم ينتقص، وضعفت وهو يزيدُ".

• أي شيءٍ يمكنه أن يرفع بعض الحزن، وأنت ترى أناساً يتقدمون في العمر، ويقتربون من مغادراتهم، وكنت قد نشأت على فيض قلوبهم وسماحة أرواحهم، وقد علّموا من حولهم وكل من اقترب منهم طريقةً بسيطةً وعميقة لخوض الحياة في آن؛ العيش بلا ضغائن. هذا الجيل الذي يذهب أبناؤه واحداً تلو الآخر، يملكون من جوهر المحبة وصدقيّتها هذا القدر الهائل من السخاء والحنوّ، يعبرون عنه بطريقتهم، دون تنميقات ولا كلامٍ زائدٍ ولا افتعال. يمكنهم أن يلمسوا داخلك بلمحة عينٍ مُتعبة، بقبضة يدٍ على يد، بمصافحةٍ وسؤال عن الحال والبيت، حتى وهم في أقصى أوجاعهم. وهكذا غمرني الشعور وخالي يجاهد إعياءه كي يُرحّب ويسأل ويطمئن. عسى الله أن يشفيه.. آمين.