• في الحوارات العميقة التي جمعتني به، على امتداد سنين كريماتٍ من الصداقة والقرب، كان محمد زايد الألمعي، بما تعنيه الكلمة، كينونةً وتركيبةً إنسانية لها طابع مستقل يستعصي على التقاطع والشبه، حاشداً رؤاه وحاسته باستعداد ذهني ومعرفيٍ متجاوز، وبراعةٍ شعريةٍ لها نكهتها الخاصة. مثلاً؛ تذهب بكما انشغالات الحياة لأوقاتٍ قد تمتد لأشهر وأشهر، لكن وفي كل مرة وبعد هذه الانقطاعات، طالت أو قصرت، يحدث أن يتسلل إلى داخلك، أنك وفي تراكم تجربتك، مع الوقت قد قرأت جيداً، وتقدمت في كدحك صوب التعلّم بجدّيةٍ أكثر، وربما انسرب إلى نفسك أنك قد كبرت قليلاً وانتبهت لدقائق أعمق في فهم تجارب التاريخ وتقلّبات الواقع على اختلافها من حولك، ثم يحدث أن تلتقي محمد زايد، وتذهبا كعادتكما على الفور في حديثٍ هنا أو هناك، في تحليل شيءٍ ما، في مساءلة كتابٍ، أو حادثة، أو ربما فاصلة منزوية في ركن بيتٍ أو قصيدة، فلا يكاد ينتصف الوقت في مجلسكما وحواركما، مهما كنت متمكناً من الخلخلة والسؤال واللقطة، حتى تشعر عميقاً أنك بحاجة لمراجعة جادة لقراءاتك وحصيلتك وتنوّع أدواتك. يخلق محمد في نفسك هذا الجراءة في مواجهة ذاتك، دون تعالٍ أو افتعال، لا يدري أنه يدفعك في كل مرة لأن تهمس سرّاً في نفسك لنفسك، حتى لا تقطع انهماكه في نسل خيوط فكرةٍ ما؛ "عد واكدح أكثر".

شخصياً لقد قُدّر لي أن ألتقي بشخصياتٍ ثقافية كثيرة، سواءٌ محلياً أو على مستوى الوطن العربي، وربطتني بعددٍ منهم صلاتٌ جيدة، وأقول إن هذه الفرادة والروح المشعّة، على تنوعها وتجددها، تتعمق لدى قلّة قليلة منهم، أحدهم محمد، فهو يأخذك إلى المزيد من تقديره مرةً بعد مرة، ويوقظ فيك إلحاحاً لا يمكن تفاديه، لتكون أكثر صرامةً مع طريقك. هذه ليست مفاضلةً، بل شهادة عن كثب، وكثيرون يعرفون مداها، لاسيما أولئك اللصيقين به.

• في نصّه "أنتم.. ووحدي"، يقول محمد؛ "هذي المواسم فيّ، تقبسُ من شعاع اللحظةِ الأولى، وتبتكر الجسدْ! هذا احتراقي -قاب أغنيتين أو أدنى- وهذي لحظتي الجذلى، تؤرّج ما استدار على شفاهي من كلامْ! هذا فمي، شظّتهُ قارعة السنين، تعاورته أصابع النسيان، هذا نهرُ أسئلتي، بعيداً عن براءة صورتي في لوثةِ الزمن الرديء، فلمن تشقّ قصيدتي أحزانها، ولمن أحدّث حين يشتعل السؤال"!!

• أخيراً، أقول آسفاً، إنه لو كان محمد زايد من بلدٍ آخر، لا سيما البلدان التي كانت ذات يوم مراكز للثقافة، قبل أن يتحول بعضها إلى ميادين للحروب والاغتيال والطائفيات والنزاع على السلطة، لربما انهالت عليه الحفاوات من بلدنا الذي اعتادت مؤسساته الثقافية والإعلامية، الرسمية والخاصة، على المباهاة بتقديرها للبعيدين، ليس من البلدان العربية فقط، مع احترامي لأشقائنا، بل أيضاً لمن هم من أقاصي الأرض!