لا يمكن للمنطق أن يقف على الحياد حين يتحول رمضان الكريم إلى مجرد شهر للتسلية. قناعاتي اليوم تسير عكس أن يصبح هذا الشهر الفضيل سلعة استهلاكية جبارة بدءاً من أرفف الدكاكين وانتهاء باستديوهات الأقنية الفضائية. وهنا سأبدأ بالمقاربة ما بين جيلين من الذاكرة الرمضانية. في ذاكرتي الطفولية من رمضان وفي ذاكرة ابني الصغير الذي تحول لديه – رمضان – مجرد مصطلح تسلوي لا يرسخ منه لديه إلا أن – رمضان – عدسة تكثيف هائلة لمنافسة إعلامية. في طفولتي التي تقارب عمر طفلي هذا المساء لم يكن من رمضان في ذاكرتي إلا ما يجب أن يكون من رمضان: رائحة القرية الجافة في ضحى الشمس الملتهبة، تلك الوجوه القروية العادلة الذابلة حتى قبل أن يؤذن للظهر. تلك الشفاه المتفحمة حتى لتخالها ستشرب نصف الدلو قبل أن يصل للجوف. وجبة الإفطار التي تصل من بساطتها لأن تكون جاهزة قبيل دقائق من أذان المغرب. منظر – أبونورة – رحمه الله وهو يهم برفع يديه إلى أذنيه من فوق أسطح منزله وكم كانت تطول دقائق الانتظار ما بين رفع اليدين وما بين الفرج في جملة (الله أكبر). صلاة التراويح على ضوء – الفانوس – الخافت الذي يكاد أن ينام قبل أن تنام القرية بأكملها بعيد الركعة الأخيرة. صوت منبه الساعة وهو يوقظ العائلة لفتات السحور، نصف ساعة قبل أذان الفجر، ثم نعود بعدها، لكل ما كان بعاليه، في دورة يوم أخرى مطبوعة بالكربون من ذات رحم اليوم السابق.
لا أرى في – محمد – الصغير، الأوسط، مجرد صورة كربونية لشخصيتي وطبائعي فحسب، بل أيضاً هو مثلي ذات يوم بعيد، بعيد، يصوم رمضانه الأول، ومثل أبي – رحمه الله – معي، أنا معه اليوم أراقب التزامه ولربما غضضت العين عن غزواته الشاردة – إن حدثت – إلى صنبور الماء. والقصة أنه يسأل ويكرر السؤال عن رمضان منذ تباشير شعبان وربما حتى من قبل فعن أي رمضان هو يسأل. وبالتأكيد فهو لا يسأل عن رمضان – طفولتي – الذي يستحيل تماماً أن يستوعبه أو أن تصدَّقه ذات المقدار من استحالة أن أستوعب أو أصدق أو أهضم قدراته الإلكترونية المدهشة كأنموذج من الجيل الرقمي. وفيما كان من المستحيل علي أن أنام لحظة قبل حتى شروق الشمس، بات من الصعب أيضاً أن يصحو – محمد – في المقابل حتى إلى قبل لحظات من المغيب وأنا هنا لا أفضح مسلكاً طفولياً لواحد من أحب – حركات الدنيا – إلي بقدر ما أضعكم جميعاً، ولربما بلا استثناء، مع أطفاله. والمهم، في الخلاصة، أن رمضان اليوم هو – رمضان الليل – لا – رمضان النهار – وبهذا التراتب ما الذي يتبقى من ذاكرة الصوم، الجواب لا شيء: نحن نتحدث عن القمر لا عن الشمس. عن الأكل لا عن الامتناع. عن السهرة لا عن مشقة الصحوة. عن كل هذه الحيل المفرطة التي نصوم فيها عن كل شيء عندما ننام ثم ننتهك فيها كل شيء بعيد قليل من اليقظة. المنطقي في هذه الظروف أن نصوم في الليل ثم نفطر في النهارـ وأنا هنا أستغفر الله، ثم استغفره ألفاً، على هذا الخيال المفرط ولكن هذا هو ما انتهينا إليه. لم يعد لمحمد، أو لغيره من خصوصية في رمضان يفرق بها عن شعبان ومن ثم شوال إلا ما كان له من الذاكرة الجديدة. وجبة الإفطار التي تصف نفسها بذات الاسم اللغوي تماماً فالإفطار هو في العادة الأولى من الوجبة الأولى بعيد اليقظة. صوت الأذان الذي يسمعه مباشرة من التلفزيون وهو في العادة على غير شوق جارف لأن يسمعه ولا تهمه الدقائق ما بين رفع المؤذن ليديه وما بين النداء في الله أكبر. هذا الشغف الجارف لكل هذه الأعمال الدرامية الهابطة التي تستحضر كل نقائصنا الاجتماعية طوال العام ثم تبثها زحاماً وكثافة إلى عينيه بعيد صلاة المغرب. أسماء الممثلين والفنانين الذين أصبحوا لرمضان علامة تجارية مسجلة. أجهزة الألعاب الإلكترونية التي يقضي عليها سواد المساء ومن الغباء أن يظن أب أنه قادر على ملاحقة مضمونها أو فهم محتواها الثقافي فنحن جيل لا يستطيع حتى فهم بضعة أزرار من لعبة واحدة. كل هذا يحدث في الفارق الهائل في حياة رمضان من الحياة بين جيلين متلاحقين ومتلازمين: بين أب وابنه، فما الذي سيحدث بالضبط عندما يكتب – محمد – ذات تجربته لحفيده بعد خمسين عاماً من اليوم، تماماً مثلما أكتب اليوم تجربتي معه؟ كيف سيكون الفارق يومها بين جيلين.