قلت قبل سنوات إن جامعة جازان تمارس "الخروج عن النص"، وهي تقتحم سواكن المجتمع، وتتداخل مع المشهد العام، وتكسر النموذج البارد والتقليدي، وتتفاعل مع الأرض والإنسان، حين وظفت رصيدها الهائل من العقول والكائنات المشعة، لتنسج ذلك المنحى والأفق الطقسي، في بناء مشهد مترع بالمغايرة والمغامرة وسيادة الوعي، زرتها وأنا أعلم أنني سأرى ما يبهجني ويشعرني بالغبطة والمسرات، لما يعتمل داخلها من المشاعل والبؤر المضيئة والطروحات المناهضة للكسل العقلي، والتناشز الحاد مع مغاليق العصر ونواميس الاجترار، دلفت مع آخرين إلى "نادي القراءة"، وأكثرهم أي الضيوف كان محملا بالترسيمات الذهنية المضمرة، والاستعداد للانقضاض الكلامي السائد، الذي سيقودهم كالعادة إلى الملل ومطنبات الخطابات المبوبة والمنسقة، أخذت مكاني بين عدد من المثقفين والإعلاميين، الذين حضروا الموسم الثقافي السابع للجامعة، ليبدأ الحديث خلاف ما توقعوا جميعا، ولأصغي بكل جوارحي لشاب يدرك ويعي ما يقوله كواحد من طفرات الجامعة، إنه رئيس النادي الطالب "عبدالرحمن إدريس"، الذي كان يتدفق بشغف أخاذ ولغة منتشية وآسرة، وهو يعدد مناشط النادي وبرامجه وفعالياته التي أنجزها خلال الفترة المنصرمة، التي اشتملت على جلسات قرائية متنوعة واستضافات لعدد من المثقفين من منطقة جازان وخارجها، وإقامة أندية ثقافية للطفل والمشاركة في مناسبات ومحافل ثقافية، ومعارض للكتاب وغيرها من الفعاليات التي ينهض بها النادي، بما يمتلكه من تمظهرات جاذبة ومرئيات مؤثرة في الوعي الجمعي، ولكن المبهر هو ذلك التوظيف الرمزي والاستلهامي بعودة الذاكرة إلى مخزونها التاريخي، كمدلول معرفي، والتعالق مع مدارات كانت غاربة عن التمثلات، والمقابسات والحضور والمثاقفة في منتدياتنا الهاجعة كجدران الخيبة، إنه "طريق الحرير"، الذي اقتنصه النادي كمشروع وشعار للتجادل المثمر والتشابك معه، بما يمثله من اندلاعات فكرية امتاعية ومنطلق بشري وتداخلات أممية، حين عبر قبل آلاف السنين من الصين، لتسلك من خلاله القوافل والسفن فجاج الكون، عابرة أرجاء المعمورة لتصل إلى الأمم والشعوب، منتظمة في مسارات منذ القرون الأولى قبل الميلاد، وليظل حاضرا في أعماق الدهور، كما تقول "الموسوعة الحرة"، ولتشهده الحضارات الرومانية والبيزنطية والإسلامية، وليكون معبرا ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، وسببا في معرفة قارة آسيا للإسلام وعظمته وريادته، ودافعا للانفتاح والاشتغال على الاتجاهات المعرفية والفلسفية والترجمة، وليذكر الأمة العربية الإسلامية بدورها الحضاري، وإسهامها المتفاعل مع الثقافات العالمية والحضارات القديمة والحديثة، فشكرا لمن كان وراء هذه الحواضن الاستبصارية، والمنطلقات العقلانية الكاشفة والمستدعية للتبادليات التاريخية والمطامح المتجاوزة، وشكرا لمن حول أبناءنا إلى مجرات باسقة، ورؤوس أحلام خضراء لتزهر في ربيع الوطن كقلب الشمس في الضحى الفواح.