سُئل "عبدالملك بن مروان" خامس الخلفاء الأمويين الملقب بأبي الملوك، وقد جرّب متع الدنيا، وذاق ملذاتها.. عن أطيب العيش.. فقال: "ما أنا اليوم إلى شيء أحوج مني إلى جليسٍ يضع عني مؤونة التحفظ، ويحدثني بما لا يمجّه السمع، ويطربُ إليه القلب"..

وهذه خصلة وجدتها بالدليل والبرهان الساطع لدى المتقاعدين، ولذلك فأنا محظوظٌ كون أغلب أصدقائي هم من المتقاعدين المنتشرين في مناطق مختلفة.. كثير منهم توطدت علاقتي بهم بعد تقاعدهم.. متقاعدون من جهات مختلفة.. بعضهم جنود .. بعضهم ضباط كبار.. بعضهم حرّاس مدارس، بعضهم وزراء، وبعضهم متقاعدو بند الأجور .. بعضهم متقاعدو الحكومة وبعضهم الآخر متقاعدو القطاع الخاص.. القاسم المشترك بينهم أنهم متقاعدون!

صداقتي للمتقاعدين توفر لي حاجتين ثمينتين: الخبرة والمتعة.. والتفصيل في ذلك يحتاج إلى مجلد كامل!

المتقاعد غالباً ما يكون كبيراً في السن، يمنحك خبراته في الحياة.. يعطيك المختصر المفيد.. والخبرة نسبية هنا، تختلف فائدتها من شخص لآخر.. المتقاعد يروي لك من الحكايات والقصص والمواقف والمشاكل والحلول، ما لا تعثر عليه في بطون الكتب، لو أفنيت عمرك بحثاً عنه..!

تأتي أحاديثه صريحة.. فضلاً عن أن تواصلك معه يتوافر لك كل ساعات النهار.. فلن يعتذر منك بحجة وجوده في اجتماع.. أو زحام مراجعين.. أو ارتباطه بخارج دوام!

النقطة الأخرى هي متعة الحديث مع بعض المتقاعدين.. إذ يندر أن تجد متقاعداً عابساً - رغم ظروف بعضهم الصعبة والقاسية - هم يبادرونك بالأحاديث المحببة إلى النفس.. ساخرون دوماً في أحاديثهم.. أحياناً تصنف بعض هذه الأحاديث (+18) .. النكتة لديهم حاضرة، ولا أقولها من باب المبالغة، لا يوجد أجمل من مؤانسة النفس بالحديث مع المتقاعدين..

- احرصوا على مجالسة المتقاعدين والقرب منهم.. إن غبتم سألوا عنكم.. وإن بحثتم عنهم وجدتموهم بسهولة.. يهدون إليكم عيوبكم، وإن غضبوا منكم لا يخرجون عن الحق.. يفرحون لكم ويتألمون معكم.. يبرّونكم، ويقفون معكم، ويدافعون عنكم، وإن لم ينفعوكم.. فلن يضروكم!