مرت المجتمعات العربية والإسلامية بتحولات سياسية واقتصادية واجتماعية مفصلية؛ منذ حقبة الاستعمار ثم الاستقلال وقيام الأنظمة السياسية، التي تميزت بكونها استبدادية واتخذت شكل الحزب والفكر الواحد.
كانت هذه المجتمعات إسلامية متدينة بطبيعتها دون تكلف أو أيديولوجيا تتخذ من مسوح الإسلام شعاراً لها، ثم بدأت منذ ستينات القرن الماضي موجات "التدين الأيديولوجي" تطرأ على مجتمعات العالم الإسلامي، وبدأت جماعات الإسلام السياسي تتطلع للفوز بدور سياسي واجتماعي، وكان من أهم هذه الجماعات وأقواها تأثيراً بطبيعة الحال، جماعة "الإخوان المسلمين" التي أنشئت بمصر في نهاية عشرينات القرن الماضي.
وبما أن حلم المجتمعات العربية الإسلامية كان يتلخص بحياة كريمة واستقرار وتقدم حضاري، فتجاذبتها التيارات السياسية القومية والليبرالية والشيوعية، ليتأثر المجتمع بنمط الحياة الغربية بحكم تأثير الاستعمار حتى بعد رحيله. إلا أن الاستئثار بالمال والسلطة وخيرات البلاد، قد جعل هذه المجتمعات تتوق إلى واقع أفضل طالما حلمت به، إلا أن الظروف جعلتها أمام واقع آخر غير الذي حلمت به، حيث ذهبت الشعارات القومية ودعاوى الاستقلال أدراج الرياح، ليمنى العروبيون والإسلاميون على السواء بهزيمة نكراء موجعة بددت شعارات محاربة إسرائيل من أجل تحرير فلسطين، وقد حاولوا تجاوزها فأسموها بـ "نكسة 67" إلا أنهم فعلياً قد اعتبروها نكبة لا تقل عن نكبة 48 التي أضاعت فلسطين، وقالوا ـ في النكبتين ـ إن "الخيانات" أهم أسبابها.
في هذه الأثناء وجد المد الإسلامي دورا وآذانا صاغية لدى مختلف فئات المجتمعات العربية، فالغالبية العظمى تدين بالإسلام، ولم تجد استغرابا في تقبّل الأيديولوجيا الدينية، إلا أن القوميين العرب قرروا فك الارتباط والتحالف مع جماعة الإخوان المسلمين؛ فما فعله الرئيسان المصريان جمال عبدالناصر وأنور السادات والرئيس السوري حافظ الأسد بجماعة الإخوان من مضايقة وسجن وملاحقة وتنكيل، جعل معظم أفرادها يهربون إلى دول عدة من العالم أهمها المملكة العربية السعودية، التي احتضنت أفراد هذه الجماعة وآوتهم، وبحكم حاجة مجتمعنا آنذاك للتعليم والعلم الشرعي، فقد تمكنوا إلى الوصول لأهم المؤسسات التعليمية والاجتماعية والدينية، فأثروا في المجتمع تأثيراً كبيراً، وإن بدا بطيئاً ومتدرجاً.
غير أن هنالك ثلاثة أحداث مهمة سرّعت بتمكين هذه الجماعات، فانتقل المجتمع إلى زمن جديد سمى بـ"الصحوة الإسلامية"، كان للأحداث الثلاثة المشار إليها دور أساسي فيه، وأعني بها: ثورة إيران الخمينية، وحادثة جهيمان، وحرب أفغانستان.
أثرت هذه الأحداث الثلاثة المتتابعة بلجوء المجتمع إلى التدين، لكنه ليس التدين الذي كانوا عليه طوال قرون ماضية، إنما "التدين الأيديولوجي" الذي يهتم بالمظهر على حساب الجوهر من جهة، وبالانتماء لجماعة ما من جهة أخرى، وبما أن جماعة الإخوان كانت هي الأكثر تدريبا وتأهيلا فقد قادت ركب الجماعات الأخرى من خلال إمكاناتها العالية، وقدرتها على العمل السري، فهي جماعة أدمنت العمل في الظلام، وقويت شوكتها بعد انضمام المتحولين إليها من الفكر الآخر، وتحديداً "القومية العربية" و"الماركسية".
وفي منتصف ثمانينات القرن الماضي بدأ تأثير "الصحوة" التي كانت معظم قياداتها من المنتمين لأهم التيارات الإخوانية "البنائية والقطبية والسرورية"، وبدأ تظهر على معظم أفراد المجتمع السعودي علامات "التَّصَحْوُن"، فأصبح الغطاء الديني الإسلامي هو المحرك لكل أفعال وحركات المجتمع، فاشتهرت قصص العذاب والخوف والبكاء، كما اشتهرت كرامات الأفغان وأساطيرهم، وأسهم مشايخ الصحوة بدفع المجتمع لحالة من "اللا طبيعة" ودعموها من خلال وجودهم في مراكز القوى، والتأثير على مراكز القرار في كثير من المؤسسات، والسيطرة على العمل الخيري، إلى أن جاءت أزمة حرب تحرير الكويت في العام 90، حيث كشفت أيضا قوة التيار الصحوي ومعارضته قرارات الدولة السياسية، إلا أن الأمر تم حسمه من هيئة كبار العلماء، وتلا ذلك وجود معارضة سياسية صريحة ذات صبغة دينية من خلال الخطاب المعروف بـ"مذكرة النصيحة" التي نشرت عبر نشرها العلني بمنشورات وأشرطة مسموعة "كاسيت" ووصلت للمساجد والجامعات، ووقع عليها عدد من ذوي الأسماء المعروفة.
إلا أن حادثة "11 سبتمبر" وما تلاها قد حجّمت من هذا المد بإتاحة الفرصة لنقده، وشارك مثقفون سعوديون في مقاومة هذا الفكر من قبل، منهم الدكتور غازي القصيبي ـ رحمه الله ـ والدكتور تركي الحمد والدكتور عبدالله الغذامي وغيرهم؛ مما فتح كوة صغيرة أمام المجتمع للتخلص من الثقافة الصحوية التي كانت بمثابة عجلة الدفع بالمجتمع إلى الخلف.