اليوم، خطر على بالي ما كانت تقوم به جدتي رحمها الله، في مطلع كل موسم جديد كانت "تُعزِّل" المنزل؛ أي تنفضه نفضا من الأرض حتى السقف والجدران وكل ما بينهما.. وقلت في نفسي ماذا عن الروح.. ألا تحتاج هي الأخرى أن "تُعزَّل" وتنظف من الشوائب التي تتراكم عليها في خضم مسيرتنا في هذه الحياة؟ قد يقوم "التعزيل" الموسمي بتنظيف موقت ولكن فائدة "تعزيل" الروح أبدية.. إنه تطهير يبدأ من الداخل إلى الخارج، فحينما تتطهر الروح ينجلي القلب، وحين ينجلي القلب ينظف اللسان، وهنا لا أتحدث عن الكلمات الجارحة أو السيئة أو الخادشة للحياء فقط، بل أتحدث أيضاً عن الأفكار السيئة والتفكير الخاطئ الذي يخرج منا الكلام السيئ في حق الآخر.. كل آخر، عن الكلام المحبط والتذمر ونسيان رحمة ومغفرة خالق الكون.

كيف نبدأ؟ أن ننظر أولا إلى دواخلنا بعمق ونبحث عن الذنوب التي تثقل هذه الروح، لا يقول لي أحد إنه لم يرتكب ذنبا.. هنا يكون يكذب على نفسه قبل أن يكذب على الغير، كلنا أخطأنا في وقت ما بارتكاب عصيان لأمر من أوامر الله عز وجل، أو آخر في حق أنفسنا أو في حق الغير، يجب الاعتراف أولا بهذا الذنب بغض النظر عن حجمه، والذنوب أنواع تثقل الروح وتشوش على نقائها الأصلي الذي خلقت عليه، الخير بداخلنا فطرة خلقت معنا، والشر من حولنا يدخل بمقدار ما نسمح نحن له بأن يستوطن ويتمكن من التأثير على فكرنا، وبالتالي سلوكياتنا وتوجهاتنا، إن الذنوب تسحبنا بثقلها إلى الاكتئاب والشعور بالمرارة.. قد ندرك من خلال عقلنا الباطني أنها موجودة، ولكن تماما كامتلاكنا لأشياء قديمة في مخازننا لا نريد أن نتخلص منها أو نفارقها.. متجاهلين المدى الذي يمكن أن تؤثر به على مسيرتنا في الحياة، يجب أن نتعامل معها تماما كمن تراكم الطين على جسده.. وعليه يسارع إلى تنظيف جسده بما يتيسر له من الماء، وعلى نفس سياق الصورة السابقة لنتخيل أن أرواحنا تراكم عليها طين من الذنوب.. فننسحب إلى ركن هادئ ونتخيل الماء يتساقط كحبات المطر، كل حبة تزيل بقعة من هذا الطين إلى أن يزال بالكامل عن أجسادنا.. سنشعر بعدها بانتعاش تخلص الروح من حمل ثقيل.. إنه مجرد مثال لكيفية إدخال نور الله إلى القلب ليطهره.. ذنب بعد ذنب..إنه الغفران الذي نطلبه ونترجاه من رب غفور رحيم.

إن فتحنا قلوبنا لنور الله سبحانه لن يحتاج إلى أكثر من ترك هذا النور يقوم بعمله، لأنه قوة تعمل بصمت وهدوء دون توقف.. لحظة بلحظة تنعش الذات وتدخل إليها الحيوية، كيف نتعرف عليه؟ تماما كما نعرف الدفء من خلال معرفة البرد، نعرف الرحمة من خلال معرفة الظلم، نعرف الشوق من خلال معرفة الحرمان، نعرف اليوم من خلال معرفة الأمس.. نعرف المغفرة من خلال معرفة الذنب، وعليه حين نحاصر بالظلام يجب ألا نلعنه ونتذمر أو نتجمد في أماكننا، بل يجب أن نكون الضوء في قلب هذا الظلام، ومن أين نستمد هذا الضوء.. من نور الله إن فتحنا له الأبواب ليدخل إلينا.. حينها ستشعر بالنقاء يتغلغل برفق وتبدأ الكأس تمتلىء نقطة بعد نقطة إلى أن تطفح وتبدأ نشر هذا النور على من حولك، وهنا يظهر تميزك.. ليس أن تكون أفضل، بل أن تكون مميزا في الطيبة، في الرقة والرحمة، في الصبر والعفو والصفح والمغفرة، في التقبل وفي التكيف.

أحيانا الأرواح تنسى فطرتها وتسير في طريق الذنوب، فتسود الحياة وتعمى الأعين والقلوب.. هل هذا يعني أن نتركها لأننا عرفنا النور؟ النور يعني إضاءة لك ولغيرك، وحين تنسى ذلك تكون حكمت على نورك بالزوال فيصبح كل ما قمت به هباء منثورا.. حين تفترض أنك أفضل لأنك عرفت النور.. تخسره! نعم، فهنالك من يعتقد أنه عرف نور الله وبالتالي أصبح أفضل، فيبتعد عمن يعتقد أنهم مذنبون أو كانوا يذنبون معه.. إن ذلك إن دل على شيء فهو يدل على أنه لم يعرف سوى ما رسمته له نرجسيته على أنه نور الله.. فهو لم يجد سوى نور مصطنع سيزول عند أول انقطاع كهربائي.. أي أول هزة تقابله.. أول امتحان، وهو إدراك هوائية النفس البشرية وتقلباتها ورقيها كما انحدارها.. فيسمح لنفسه بأن يذنب ويسعى في طلب الغفران، ويرفض تقبل ذنب الآخر! فإن تقبل واحتوى ثم عمل على أن يصلح ليس من خلال الوعظ والخطب بل من خلال السلوك وإيجابية التوجه في التعامل.. يكون فعلا قد تواصل مع النبع الأصلي.. فالتطهر لا يكون بالتعالي والقطيعة وسوء الظن، بل بالتواصل.. ثم التواصل.. ثم التواصل، فكما لم نيأس من رحمة الله وأفسحنا لنوره أن يضيء لنا أرواحنا، يجب ألا نيأس من تواجد تلك الفطرة.. تلك البذرة التي خلقت بداخل كل آخر.. إن النور الحقيقي لا حدود له، من داخلنا سيمتد لكل آخر دون حكم أو تمييز.