(1)


كان رفيق الصبا، نلهو في الحقول ونتسابق على عبور النهر، ونعود لمنازلنا لينال كلَ منا نصيبه من توبيخ الأمهات وعقاب الآباء الصارم.

التحق بالكلية الحربية وأجبرني والدي - سامحه الله ورحمه - على الالتحاق بكلية الشرطة ـ حتى لا تُفسدنا السياسة ـ التي عرفت دروبها مبكرا مع (حازم)، والمُثير أننا استقلنا بعد سنوات صقلتنا الحياة العسكرية الخشنة، لكن شوقنا للسياسة والأدب دفعنا لتغيير المسار، فراح يدرس النقد الفني حتى أصبح أستاذا بأكاديمية الفنون، بينما مضيت في دراسة القانون حتى أنهيت أطروحة الدكتوراه.

ذات ليلة كئيبة وبينما أتأهب للنوم باغتني النبأ كرصاصة. مات حازم شحاتة في حريق قصر ثقافة بني سويف، قالها صديقنا المشترك عبر الهاتف فلم أرد، عقدت الصدمة كياني ولم تسعفني دمعة، ويبدو أنه كلما عظمت الفجيعة استعصت الدموع، واستنفرت ذاكرتي تتدفق عبرها حكايات وذكريات سنوات التسكع على تخوم الوعي، والأحلام المبتسرة التي أمسينا نتنازل عنها واحدا تلو الآخر، وتلك اللحظات التي طربنا فيها لمغنٍ مجهول اكتشفه فقد كان أشهر (صياد مواهب) مجهولة في مصر.

وبالطبع لا يعرفهم هؤلاء الذين يملؤون الساحة صخبا سخيفا ويلاحقوننا في الصحو والمنام، حتى كادوا يتدفقون عبر صنابير المياه.. هل كان ينبغي أن ترحل في هذه اللحظة، "لحظة الضمير" التي بدأت تدب في أوصال مصر؟

وإذا سلمنا بأن ساعة الرحيل حانت، فهل كان ينبغي أن تكون على هذا النحو المأساوي؟

هل كان يجب أن تتألم روحك التي لم أضبطها مرة متلبسة بكراهية أو حقد مهما أمعن في إيذائك الآخرون؟ ولطالما أوذيت فلم يكن منك سوى الصفح والتسامي على الجراح.

هل كان ينبغي أن ترى لحمك ينصهر أمام عينيك، وشعر رأسك يحترق محدثا "فرقعات" كحبات الذرة، وأن تصرخ من العطش في فرن "قصر الثقافة"، فلا تجد سوى ألسنة اللهب تحاصرك وتلتهمك؟

(2)


كانت تشبه "زهرة اللوتس" التي نقشها قدماء المصريين على المقابر والمعابد وتفننوا برسمها حتى أصبحت "أيقونة حضارية" قابلتها صدفة في منتدى فكري، كنا نعرف بعضنا عن بعد، وللمرة الأولى نلتقي، أشارت لي بإصبعها: أنت فلان، فقلت وأنتِ سناء.. تحدثنا كثيرا، وكأننا اتفقنا على سخف متابعة اللغو المستعر بالقاعة، ورحنا نسخر من تقعر المثقفين والأدعياء كأننا أصدقاء قدامى، مع أنها المرة الأولى التي نلتقي فيها.

لم أعرف شخصا يدمن على القراءة مثلها، لهذا بحثت واقتحمت مناطق وعرة من تاريخ مصر وهويتها الحضارية، ولم نكن نلتقي إلا لمناقشات تمتد حتى الفجر، وتعلمت منها الكثير، لعل أهمه أن عقل المرأة أجمل ما فيها، هكذا كانت سناء المصري، التي لم أنظر لها كأنثى يوما، بل كصديق دون تاء التأنيث، لا ينتقص ذلك من أنوثتك شيئا، لكن تلاقي الأرواح والعقول كان عنوان علاقتنا وقانونها.

هل تذكرين يا سناء ليلة فيروز؟

حين شدت قبل نحو ربع قرن تحت سفح الأهرامات تلك الأمسية الصيفية حين كانت القاهرة تختنق تحت وطأة شمس أغسطس الخرقاء، بينما تحلقين طربا وتتصرفين كالأطفال ونحن نستقل سيارة اقتحمنا بها الحفل.. هل تذكرين أننا اقتحمناه بكل ما يعنيه الفعل من معانٍ، فلم نتوقف أمام نقاط التفتيش، ولم نتكلف حتى شراء تذكرة دخول، ولم نكترث للضباط المتناثرين، واندفعنا صوب ساحة أبي الهول، وهناك اتخذنا من السيارة مقصورتنا الخاصة، و"تسم علينا الهوى من مفرق الوادي"، وأصبحنا "نحن والقمر جيرانا"، وكان بيته خلف تلك التلال، وكان فضوليا يسترق السمع للألحان. وكان وكان وكان.

آه من فجيعة ذلك الصباح حين استيقظت على اتصال بأنك بالمستشفى، لم أغسل وجهي يومها، وحين وصلت وجدتك بالعناية المركزة.

"ممنوع الدخول".. لم ألتفت لقائلها ودفعت الباب لأجدك في غيبوبة كاملة، أخذوني للخارج عنوة، واصطحبني الطبيب لمكتبه وأبلغني بهواجسه حول احتمال إصابتك بالسرطان، وبعد رحلة طويلة مع التحاليل والفحوصات أجمع الأطباء على ضرورة سفرك لفرنسا.

يا إلهي، إنها مثلي فقيرة لا نمتلك نفقات السفر والعلاج هناك، فكلمت أحد الأثرياء الذي يعرفها ويُقدرها، فتحمل الرجل نفقات السفر، وبعد أسبوع عادت جثتك في صندوق.. كان السرطان توغل بجسدك النحيل، ووقفت لحظة دفنها أستجدي دمعة لعلي أرتاح، لكنها استعصت حتى غادر الجميع، فجلست بجوار قبرك أهمس، وبالأحرى أهذي، حتى جاء أحدهم ليأخذ بيدي، وكانت رحمة الله تعالى قد أدركتني ففاضت الدموع حتى امتزجت بثرى قبرك الطاهر.

(3)


كان كما يقولون في تراث مصر الشعبي (ابن موت) لفرط دماثته وأدبه الجم، لم أسمع منه لفظا قبيحا رغم توحش القبح حتى أصبح "موضة العصر" بل عاش واستشهد عفّ اللسان، في المواجهات الدموية الخسيسة مع الإرهابيين خوارج العصر.

بعده مات نجيب وسمير وهشام وسحر وأبي ومعهم مات قلبي، لم تعُد تُوجعني أنباء الموت، فعلها أصدقائي وأحبتي وخانوني وتركوني وحيدا أكابد الفراق والاحتراق يلاحقني سؤال: هل هناك ما يستحق أن نحزن أو نبتهج لأجله، بعد كل هذه المرارات والصدمات؟

فارقدوا أيها الأصدقاء بسلام.. وستبقى الحكايات، أو بالأحرى لن يبقى غيرها.