من طوكيو، ومن الحافة الأخيرة لطين هذه الأرض، يبدو أن أعظم ما استطعت أن أكتشفه من ملاحظات اليوم، وفي جملة قصيرة عالم لسنا فيه ولا ننتمي إليه.

تكتشف أن الفوارق ما بين عالمين على الكوكب نفسه أصبحت خرافية ومتباعدة.

حتى كلمة "التباعد" قد لا تصف أبدا حجم الفارق لأننا لسنا مع غيرنا مع الأمم الأخرى في سباق تتابع بل في تقاطع عكسي. بحساب المسافة من طوكيو إلى أبها، سأحتاج لما يقرب العامين مشيا على الأقدام كي أعود إلى بيتي وأطفالي، وبكل صراحة، فلو أن هذه العوالم من الشرق والغرب قد تركت لنا هذا المصير، لكان ـ بكل الأماني ـ هو ما أستحق وما يستحقه عالمي العربي من حولي.

هذا لو أن شعوب الاستخلاف الحقيقية التي غيرت حياتنا بالكامل قد استأثرت لأنفسها بحقها في احتكار منجزها حصريا كما يقول المثل الياباني: "من يذبح الثور هو الأولى بلحمه".

هنا، تبدو كل صور الحياة من التقنية إلى الإنجاز إلى التخطيط مذهلة، ولقول الحقيقة: أكثر تعقيدا وصعوبة من أن أستوعبها، أو أن أتعامل معها رغم تجربة سابقة وطويلة من الحياة أيام الدراسة.

أصبحت أشعر أن التعامل مع المنجز التقني، وحتى وتيرة الحياة اليومية في شوارع العالم الأول ومدنه، أضحت ـ اليوم ـ تجبرني على دورة لمحو الأمية.

حتى على الصعيد الإنساني البحت، لا أستطيع أن أخفي مشاعري أنني صرت متوحشا غليظا بعد هذا التكثيف الهائل من نشرات أخبار عالمنا العربي، التي لا تبدأ عناوينها إلا مثل عداد للقتلى، حتى يكاد أن يكون "فم" المذيع أقرب إلى صوت الرشاش الآلي.

لا أفهم حرفا واحدا من "اليابانية"، ولكنني أتابع الصور في مقدمة نشرة الأخبار: عالم نحن فيه، ولكننا لا نعيشه ولسنا فيه.

يقول لي البروفيسور تواكا هوندا، من جامعة أوساكا، حين كان جلوسي صدفة بجواره على مأدبة عشاء رسمية ما قبل البارحة: إن اليابان تطوِّر تأهيل ثلاثين منجزا تقنيا في اليوم الواحد، وهو بزعمه إنجاز يفوق الألماني، ويقترب من تحطيم "البحث" الأميركي. سرحت في الصمت لأن عالمي العربي يتجاوز في اليوم الواحد تفجير ثلاثين قنبلة، وسأكون سعيدا لو لم يتجاوز العرب في القتل من بعضهم البعض هذا المساء 300 جثة.