يعبر - في تقديري - تلقي المشهد السعودي لمسلسل "طاش" عن أزمة حقيقية تستحق الدراسة والبحث! كونها صورة طبق الأصل من صراع الإخوة الأعداء داخل البيت الواحد، والقائم على الشخصنة والتحزب والتخندق في فسطاط ضد الآخر! ناهيك عن توظيف المسلسل نفسه كأداة من أدوات النزال والمجابهة؛ فكرة الأهواء والأدلجة تقذف المسلسل تارة إلى حيث يكال للمسلسل المديح ألوانا، وتدبج المقالات التي ترفع المسلسل فوق أسنمة المجد الرفيع والعز "الفني" التليد؛ في بداية الموسم وقبل أن ينكشف المستور وتظهر جودة العمل أم هشاشته، وقدرته على التطور أم مراوحته مكانه! على الجهة المقابلة ترمي به الكرة نفسها إلى حيث يكفر ويجرم ويحرم وتشهر المطالبات بإيقافه حتى قبل الموسم الرمضاني السنوي! ناهيك – طبعا – عن المطالبات بمحاكمته شرعيا، وتفسيق أبطاله واتهامهم في دينهم وولائهم وانتمائهم إلى آخر الإسطوانة المعروفة!
فعلى الشاطىء "المتلبرن" أو الليبرالي تخرج الأقلام "النقدية" لتقول إن المسلسل وصل إلى قمة النضج الفني؛ وحلقات الموسم لم تزل بعد على الرفوف، وفي أفضل الأحوال تم عرض عدة حلقات منه فقط، فقط لأنها شمت أن المسلسل سيرمي بقذائفه الانتقادية في وجه التيار الآخر! وهنا يتم تناسي الموضوعية النقدية، والتعامي المطلق عن ضرورة البعد عن الأحكام المسبقة، أو الأخرى المطلقة المبنية على العاطفية الشعاراتية التي طالما نبذها واستهجنها "المتلبرنون" وهجوها بأقذع الألفاظ! وهنا أيضا يتم التعامي عن الحكم على العمل الفني بمعايير نقدية صارمة تعتمد المنهجية والرصانة والدقة، ليتم بذلك القضاء الساحق الماحق على (العقلية النقدية) التي طالما ترنم بها ذات التيار ونظم في مدحها القصيد! بينما تخرج أصوات من التيار الإسلامي لتسفه البرنامج وتحقره وتفجر في خصومتها معه، بل وصل بعضهم هذا العام إلى الإفتاء بتحريم مشاهدته، زيادة على اتهام بعضهم له بالسخرية من الدين والاستهزاء بالعقيدة، ومن ثم تحميل أفكاره ما لا تحتمل!
لاشك أن "طاش" يستحق الوقوف عنده كثيرا، ليس فقط لأنه نجح في الاستمرار لسبعة عشر موسما محققا نسب متابعة عالية، ولكن لكونه عملا دراميا يؤنسن حياة السعوديين؛ ويريهم صورتهم، وطرائق حياتهم، وتعددية مناطقهم، في شخوص من لحم ودم يتحركون على الشاشة! فضلا على أنه كثيرا ما وصل بجرأته إلى مناطق ظلت مختومة بالشمع الأحمر في ثقافتنا، وعرض مشاكل وقضايا تتماس مع هموم المواطن السعودي وشجونه بشجاعة وشفافية غير مسبوقتين! لكنه يبقى عملا فنيا كثيرا ما يعتريه الضعف والهشاشة، والقحط في الأفكار، والتكرار المعيب، والتهريج المسف، والهزال في الحبكة الدرامية التي كثيرا ما تقتلها المباشرة والمقالية! ليبقى "طاش" يراوح مكانه لا يستطيع التفوق على نفسه ولا الخروج بشكل مغاير، بل كثيرا ما يلجأ للاستفزاز، وهو في تقديري حيلة العاجز وغير المتمكن من طرق الأفكار الجديدة المخالفة للسائد بعمق واقتدار! سيبقى "طاش" محلك سر ما دام جلّ مادحيه وقادحيه يخرجون من خندق مع أو ضد، ومادام النقد الجاد غائبا عن الساحة!