مع نهاية الأسبوع الماضي، انتهت الأنشطة الثقافية، لمهرجان الجنادرية للثقافة والتراث، الذي اعتادت وزارة الحرس الوطني عقده، في العاصمة الرياض، قرابة ثلاثة عقود، وقد فرضت التحولات السياسية، التي تجري في الوطن العربي، نفسها على الندوات الثقافية للمهرجان. والهدف كما تطلع له من خططوا للندوات الثقافية، هو تناول حالة الارتباك والفوضى وانعدام الأمن، التي عمت عددا من الأقطار العربية، تزامنت مع ما أصبح متعارفا عليه بالربيع العربي، بالقراءة والتحليل.

ثلاثة محاور رئيسة، ناقشها المشاركون في ندوات الدورة التاسعة والعشرين للمهرجان، وأشبعت بالقراءة والتحليل، من قبل عديد من المفكرين والمثقفين العرب، كان لها علاقة مباشرة بما يجري الآن في كثير من البلدان العربية، هي على التوالي: المملكة والأمن القومي العربي، وحركات الإسلام السياسي، والمواطنة والدولة المدنية.

وقد سلطنا الضوء، في حديثين سابقين، على محورين، الأول حمل عنوان أيديولوجيا الإسلام السياسي، والآخر ركز على مفهوم المواطنة والدولة المدنية. ولن تكتمل هذه الناقشة، إلا بتناول الأمن القومي العربي، باعتباره الخاسر الأول، فيما جرى من تحولات عنيفة، واختطاف واضح للكيانات الوطنية، التي نسج وجودها تاريخ العرب المعاصر، منذ بدأت معارك الاستقلال، حتى يومنا هذا. وأيضا، بسبب مخاطر التفتيت التي تتعرض لها أقطار عربية أخرى.

الحديث عن الأمن القومي العربي، يحمل في ذاته معنى متضمنا، يشمل جميع البلدان العربية. وقد شاءت حقائق الجغرافيا والتاريخ، أن نكون في القلب من الأمة العربية، ومن الأحداث والمخاطر المحدقة، التي تعصف بوجودها ومستقبلها. وهو حديث لن يكون جديا وفاعلا، ما لم يتناول بالتفكيك والتحليل، الفراغات والمعضلات التي تواجه حاضر الأمة ومستقبلها وهي كثيرة.

لعل الأهم بين التحديات التي يواجهها الأمن القومي العربي، هي تحدي الإرهاب، الذي يهدد بقوة، الوجود العربي، والمرتبط بنمو التنظيمات المتطرفة، التي استفحل دورها في السنوات الاخيرة. وللأسف فإن بعض القوى الإقليمية والدولية، تستثمر وجود قوى التطرف لتنفيذ أجنداتها المشبوهة، التي جرى الإفصاح عن بعضها منذ عدة عقود، وعلى رأسها مشروع الشرق الأوسط الجديد، ولم يعد تدخل هذه القوى في شؤون البلدان العربية، بالسنوات الأخيرة، موضع شك أو جدل.

ولا شك أن الخلافات السياسية، وافتراق المصالح بين الأقطار العربية، قد أحدثت شروخا كبيرة، في جدار الأمن القومي العربي. فأي حديث عن الأمن بين البلدان العربية، شرطه تحقيق الحد الأدنى من التضامن العربي. وقد كشفت التجربة التاريخية، أن العرب حين يتوحدون على برنامج سياسي واضح، وتتضافر جهودهم لتحقيقه، فإنهم يستطيعون ذلك.

ولعل نتائج معركة العبور هي خير دليل على ذلك، ففي حرب أكتوبر عام 1973، تحالف النفط مع السلاح، وصنعا نصر أكتوبر، الذي أسقط أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، وأكد قدرة العرب، متى ما امتلكوا الإرادة والقدرة على انتزاع حقوقهم، وفرض احترام العالم لهم. وقد كشفت نتائج تلك الحرب، أسباب انتكاسة الخامس من يونيو 1967، حيث هزمت الجيوش العربية، أمام هجوم العدو الصهيوني، وذلك بسبب غياب التضامن العربي والاستراتيجية الموحدة، لمواجهة العدوان.

وإذا كانت الدروس المستفادة من التجربة التاريخية، هو بوصلة عمل للمستقبل، فإن غياب التضامن العربي، في السنوات الأخيرة، هو من الأسباب التي مكنت بعض القوى الإقليمية والدولية، بالتفرد بعدد من الأقطار دونما مواجهة جماعية عربية لهذه التدخلات، مما أدى إلى انهيارات كبرى شملت الجسد العربي كله.

والأهم من ذلك كله هو أن الانهيار في جدران الأمن القومي العربي، تزامن مع غياب تنمية عربية حقيقية ومتوازنة، تشمل تنمية الموارد البشرية والاقتصادية والسياسية والثقافية.

الأمن القومي العربي، يستوجب في هذا المنعطف التاريخي، مواجهة عربية جماعية، للإرهاب، بهدف محاصرته. ولن تكون هذه المواجهة مجدية، ما لم يتم تجفيف منابع الإرهاب المالية، وضرب مرتكزاته الفكرية والثقافية والإعلامية، وتبادل الخبرات بين الدول العربية، حول وسائله وأدواته. ويتم ذلك أيضا من خلال إيجاد ثقافة بديلة تعتمد التسامح والتنوع وقبول الرأي الآخر، وهزيمة نهج التهميش والإقصاء، والخرافة والأوهام، ومحاربة نهج التفكير، لصالح العلم والإبداع وسيادة العقل.

ولن نتمكن من القضاء نهائيا على ظاهرة الإرهاب، ما لم يتم لجم التدخلات الإقليمية في منطقتنا، والتصدي لنزعاتها التوسعية، وأجنداتها السياسية. إن عدم التصدي لنزعات التوسع والهيمنة، ضد الأمة العربية، يجعل الحديث عن صيانة الأمن القومي العربي مجرد جدل بيزنطي وسجال غير مثمر.

ذلك بالتأكيد رهن للإرادة العربية، ولإعادة الحياة للنظام العربي الرسمي، الذي انطلق بعد تأسيس جامعة الدول العربية في الأربعينات من القرن المنصرم. وقد كان ذلك أحد العناصر التي أسهمت في إبقاء الذاكرة التاريخية حية، مؤكدة الحضور العربي في الساحة الدولية.

ومن نافلة القول، إن تحصين الجبهة الداخلية، بتحقيق التنمية المستدامة، والقضاء على البطالة ومحاربة الفساد، والتصدي للأمية وتوسيع دائرة الخدمات الصحية والتعليمية، وتوفير المأوى والسكن، وإيصال الكهرباء، إلى الأطراف، في جميع البلدان العربية، خطوات لا مفر منها، على طريق مواجهة التهديدات الخارجية، وحماية الأمن العربي. فليس منطقيا أن نتعامل مع التحديات الأخرى دون تحصين الذات، وحماية الجبهات الداخلية.. والتنمية على هذا الأساس، ليست مجرد تحقيق لرخاء وازدهار أبناء الوطن العربي، بل هي متكاملة ومتداخلة مع التحديات الأخرى، إنها طريق العرب الوحيد لضمان أمنهم الجماعي.

فهل آن لنا، العمل مجددا لصيانة أمننا القومي العربي، باعتبار التعلم من التاريخ، شرطه ونقطة بدايته؟