قضية المخالفات المالية والإدارية المكتشفة في مدينة الملك عبدالله الطبية بالعاصمة المقدسة، والتي نشرتها "الوطن" مؤخراً، أعادت إلى الأذهان مشكلة وحدات المراجعة الداخلية في الجهات الحكومية، وبالأخص استقلالية هذه الوحدات وعلاقتها بالإدارات التنفيذية في الجهة، وليس هذا فحسب، بل إن هذه القضية سلطت الضوء على أهمية نشاط التدقيق الداخلي وعلى أهمية الشفافية في نشر وقائع هذه القضية في وسائل الإعلام.

وبالرغم من عدم وضوح الارتباط التنظيمي للمراجعة الداخلية بالمدينة، فهل هي مرتبطة بالوزارة أم بالمدير العام التنفيذي؟ إلا أن قضية إعفاء المراجع الداخلي تثير العديد من علامات الاستفهام! بالإضافة إلى المبررات التي أوردها المراجع في خطابه المرفوع إلى وزير الصحة ومستشاريه، والذي جاء فيه باختصار: تذمر المدير التنفيذي من مطالبات المراجعة الداخلية بالمعلومات والبيانات، وتنبيه الإدارات بعدم التعاون معها ومع موظفيها، بالإضافة إلى اتهامها بتجاوز الصلاحيات حينما كشفت عن الفساد في قسم القضايا.

وبغض النظر عن مدى صحة المبررات السابقة، فإنه يمكن القول بأنها تمثل نموذجا واقعيا لحال وحدات المراجعة الداخلية في العديد من الجهات الحكومية، وربما كان هذا هو السر في طلب أحد أعضاء مجلس الشورى بربط هذه الوحدات مباشرةً بديوان المراقبة العامة.

البعض شكك في جدوى إنشاء هذه الوحدات لارتباطها بالمسؤول الأول في الجهة الحكومية، والمراجعة الداخلية لن تقوم بكشف المخالفات وقضايا الفساد إذا كان المسؤول الأول متورطاً فيها، وهذا الرأي في الحقيقة غير دقيق، إذ إن المراجعة الداخلية تعد نشاطا رقابيا مهما تخدم الوزير في أي جهة حكومية.

فالوزير يحتاج إلى معلومات تتمتع بالمصداقية والموضوعية عن أنشطة وأعمال وزارته، ويحتاج إلى مساءلة الوكلاء ومديري الإدارات التنفيذية، كما يحتاج إلى معرفة الخلل والانحرافات وقضايا الغش والفساد التي قد توجد في الوزارة، وكيفية معالجتها في الوقت المناسب، وبالتالي فإن المراجعة الداخلية تقدم خدماتها الرقابية للوزير وإلى كافة الإدارات المختلفة، لتحسين أعمالها وخدماتها المقدمة إلى الناس، فهي تمثل أحد أهم العناصر الأساسية للحوكمة في القطاع العام.

وعلى هذا الأساس، كان موضوع استقلالية وحدات المراجعة الداخلية من أهم التحديات التي واجهتها عند إنشائها في الجهات الحكومية، وبدأت تظهر المشاكل فعلاً على السطح عندما بدأت هذه الوحدات في ممارسة مهامها واختصاصاتها.

ومن الإشكالات التي يطرحها المراجعون في الواقع العملي هي كالتالي: كيف يقوم المراجع الداخلي بأداء مهامه وهو في مرتبة وظيفية تقل عن باقي المديرين في الإدارات الأخرى؟، كيف يقوم المراجع بتقييم أعمال إدارة الشؤون المالية والإدارية وهي المختصة بالترقيات وصرف الانتدابات وخارج الدوام، فهناك تضارب مصالح بين الإدارتين؟ ناهيك عن أن هذه الإدارة تعد من أهم الإدارات في أي جهة حكومية والتي يعتمد عليها الوزير أو المسؤول الأول في أي جهة حكومية، وفي بعض الأحيان فإن المراجعة الداخلية بعيدة كل البعد عن الوزير حتى وإن ارتبطت به مباشرةً، بالإضافة إلى وجود علاقة عدائية مع الإدارات الأخرى.

في الواقع العملي، فإن العديد من المسؤولين يتجنبون قدر المستطاع قيود الأنظمة واللوائح، ومنها الإجراءات المالية، والمراجع الداخلي من مهامه التأكد من الالتزام بهذه الأنظمة، فهل يسمح المسؤول بكشف هذه التجاوزات وكتابتها في تقارير المراجعة الداخلية، والسماح للجهات الرقابية بالاطلاع عليها؟.

بالإضافة إلى ما سبق، هناك ازدواجية في بعض المهام بين المراجعة الداخلية وإدارة المتابعة، وبالتالي يوجد تنازع صلاحيات بين الإدارتين!، كما أن العلاقة مع الجهات الرقابية الخارجية مثل ديوان المراقبة العامة ونزاهة غير واضحة، فالبعض يعد إدارة المراجعة الداخلية إدارة جاسوسية لصالح هذه الجهات، فكيف سوف تكون ردة فعل المسؤول الأول في الجهة الحكومية عند كشف المخالفات وقضايا الفساد؟

هذا باختصار شديد لأبرز المشاكل التي يثيرها العديد من المراجعين في بعض الجهات الحكومية، وجميع هذه المشاكل تتعلق باستقلالية وموضوعية المراجعة الداخلية، وبالطبع هناك أسباب تنظيمية وتشريعية وإدارية لظهور هذه المشاكل.

تعد الاستقلالية والموضوعية أمرين حيويين بالنسبة للمراجعة الداخلية التي تطلب تقديم معلومات غير متحيزة ودقيقة حول استخدام الموارد والخدمات العامة، والمراجع الداخلي يجب أن يؤدي واجباته من دون قيود ودون أي تدخل أو ضغوط من الجهة أو الإدارة.

ولعلاج الإشكالات التي تم ذكرها آنفاً، أجد من الضروري إعادة النظر في بعض مواد اللائحة الموحدة لوحدات المراجعة الداخلية، ومنها المادة (3) والتي تحدد مرتبة مدير الوحدة بحيث لا تقل عن المرتبة (11)، وهذا الشرط يمثل الحد الأدنى ولكن من الأفضل أن يكون المراجع والنشاط التدقيقي في مرتبة ملائمة تمكنه من الحصول على التعاون من إدارة وموظفي الجهة، وأن يكون له حق الوصول الحر وغير المقيد إلى جميع الوظائف والسجلات والممتلكات، وهذا لا يتسنى إلا أن يكون المراجع الداخلي مساوياً في المرتبة الوظيفية مع مستويات الإدارة العليا في الجهة.

هذا بالإضافة إلى أن اللائحة تحتاج إلى إضافة مواد جديدة تحدد بشكل واضح صلاحيات ومسؤوليات المراجع الداخلي بالإضافة إلى علاقة الوحدة مع إدارة المتابعة، ومن الضروري أيضاً وجود جهة إشرافية محايدة تتعلق بتعيين وعزل وتعويضات المراجع الداخلي أو على الأقل تتم مشاورتها في هذا الأمر، مع وجود إشراف على استقلالية المراجع، والنظر في السماح بالاستعانة بالشركات المهنية لتأدية نشاط المراجعة الداخلية في الجهات الحكومية تحت إشراف مدير الوحدة من داخل الجهة، كما أرى أن تتم ترجمت المعايير المهنية للمراجعة الداخلية إلى قواعد قانونية ملزمة على الأقل في هذه المرحلة.

فالمتطلبات التشريعية تساعد في حماية استقلالية نشاط المراجعة الداخلية وفي الاعتراف بها كوظيفة مهمة في القطاع الحكومي، خصوصاً في إطار نظام الخدمة المدنية.