علي المطوع
في مجتمعاتنا الخليجية، التي تنعم برخاء كبير واستقرار أكبر، نشأت ظاهرة غريبة غدت تعرف بـ(دكترة المجتمع)، تبناها المجتمع من خلال مجالسه ودواوينه، لتصبح هذه الظاهرة من متلازمات الحضور وضرورات البروز الاجتماعي والإعلامي. ولم تسلم من هذه الظاهرة المؤسسات الحكومية والخاصة، فراح الكثير من أفرادها ينعمون على أنفسهم بلقب دكتور، ليمسي الموظف أستاذا ويصبح دكتورا مع مرتبة الشرف، في تطور علمي ومعرفي يخالف النواميس الكونية والمعرفية. إن هذه الظاهرة تعكس تهافت المجتمعات، ومنها مجتمعنا، إلى كل معاني الشكلية وصورها النمطية المظهرية الخداعة. لقد كان التباهي في مراحل سابقة، في المركب والمسكن والملبس، أما في وقتنا الحالي فقد تجاوزنا ذلك بكثير، وصار التباهي الأكاديمي بعدا آخر من أبعاد المباهاة التي يرنو إليها الفرد والجماعة.
لقد نشطت مافيا الشهادات المزورة فى مجتمعنا، وراح مروجوها يجوبون مؤسساتنا الحكومية والخاصة، مروجين لبضائع مزجاة في قيمها المعرفية والفكرية، مدموغة بأختام مؤسسات غير معروفة، وليس لها وجود على خارطة التعليم الأكاديمي، ومع ذلك وجدت هذه الشهادات رواجا بين أفراد المجتمع، وأصبح الكثير منهم يتسلح بهذا العبث الأكاديمي ويجعله مسوغا ومهرا للقب صاحب السعادة الدكتور فلان. والأدهى من ذلك عندما تشاهد إعلان مباركة في صحيفة يومية، يشير إلى هذا الإنجاز الفكري والمعرفي ويباركه، والمفارقة أن هذا الإعلان يشير دون خجل أو مواراة إلى اسم الجهة المانحة لهذه الشهادة، تتوسط ذلك صورة المحتفى به الممنوح هذه الدرجة العلمية، والمملوح في حضوره الدعائي من خلال تلك الصورة التي تظهره وهو ينظر إلى الأفق البعيد نظرة صقر جارح يستعد لمغامرة قنص جديدة، لكن الفارق يكمن في الطريدتين، فطريدة الصقر وغنمه يكون ثمينا يشاركه صغاره أكله، أما طريدة صاحبنا فهي قطعة كرتونية مزيفة يكون مآلها مشب البيت، كونه مكان تجمع الخلص من الأصدقاء القدامى الذين ما عرفوا دروب هذه الشهادات ولا كنهها.
وفي بيئاتهم الوظيفية يتم تسريب الخبر عن طريق أحد الحواريين، ممن لهم أسبقية شرف الصحبة وديمومة الثقة، فيعلن هذا الحواري نبأ حصول هذا المدير على شهادة الدكتوراة مع مرتبة الشرف، من جامعة كذا الأميركية أو البريطانية، فيتهافت الجميع أفواجا يؤمون مكتب صاحب السعادة مهنئين ومباركين، وصاحبنا يسألهم وقد رسم على وجهه شيئا من علامات الاستغراب ممزوجا بالفرح قائلا: مبروك على "إيش"؟ فيقولون شهادة الدكتوراة... يا مدير، وهنا يتواضع لهم ويلين فى كلامه ويشكرهم شكرا جزيلا ويحثهم على التزود بالعلم والمعرفة، ولكنه لا ينصحهم بهذه الجامعة العريقة، إن أرادوا إكمال دراستهم كونها من أصعب الجامعات ومتطلباتها الدراسية والأكاديمية عالية جدا.
وهنا، ولضمان البقاء في دائرة صاحب السعادة ومناطق نفوذه، وتحت تأثير طموح الصحبة والقرب من سعادته يقترح (مشروع حواري قادم) أن ينشر إعلان مباركة لصاحب السعادة فى صحيفة يومية، يكون باسم الإدارة ومنسوبيها، فتبدأ حملة جمع التبرعات من الموظفين ويسبغ عليها ذلك الموظف التقي في سيماه ومظهره المباركة ويرى فيها تعاونا على البر والتقوى، وتشجيعا على طلب العلم، وخصوصا أن صاحب السعادة يجسد مرحلة الحد في طلبه المتأخر للعلم، ويتبنى الحملة أيضا أكثر الموظفين تقصيرا وأقلهم إنتاجية، ويتم الضغط على الموظفين الصغار للدفع والمشاركة، وخصوصا أن هذه الدكتوراة مجيرة للجميع، أما صاحب السعادة فيصبح أكثر عقلانية وتوازنا، وتصبح الأكاديمية وقياساتها وشواهدها أساس كل حراكاته الإدارية والحياتية، وتصبح المصطلحات الفضفاضة كالتضخم والخواء الفكري والمعرفي وحوار الحضارات، مرتكزات حضوره المسرحي، كما أن حكمه الإدارية تتجلى أكثر وتواضعه الجم يصبح ظاهرة لأنه يعكس ثقة عمياء بنفسه وبقرطاسه الأكاديمي المشنوق عنوة في غرفة المشب.
إن ما سقته آنفا يظل واقعا معاشا نراه ونشاهده، وهذا لا يلغي تميز الكثيرين وإبداعهم وحصولهم على أعلى الدرجات العلمية والمعرفية، لكن ما ذنب هؤلاء المتعلمين حقيقة، عندما يساوي المجتمع بينهم وبين أولئك المزورين؟ أليس هذا عيبا في المجتمع وأفراده؟ بلى إنه كذلك، وستظل هذه الظاهرة معول هدم للمجتمع ومؤسساته المختلفة. نحتاج وقفة صادقة من الجميع بدءا بالفرد ووصولا لكل الأجهزة المعنية والمناط بها كشف هذا النوع من الاحتيال والتزوير لنحمي المجتمع ونصون أعرافه وتقاليده.