قبل أيام قليلة بينما كنت أتسوق في أحد مراكز التسوق، أسعدني أحد الشباب الرائعين العاملين على خطوط "الكاشير" حينما ردد على مسامعي قراءة عنوان مقالتي الأسبوع الماضي "جازان منطقة الخمسين دكتورا" وممتدحا ما جاء فيها، وأنه من المتابعين الدائمين لما أطرحه وأتناوله في صحيفة الوطن. لقد احترمت فعلا ذلك الشاب كثيرا ليس لأنه يقرأ ما أكتب، بل لحرصه على القراءة والمطالعة، على الرغم من حساسية العمل الذي يقوم به، وسعدت بقربي من المجتمع إلى هذا الحد المفرح بالنسبة إلي، لكن أكثر ما أفرحني كان رؤيتي للثقة الكبيرة في عينيه الثقابتين ولباقته الرائعة، واهتمامه بالعمل الذي يؤديه كقيمة يستخدمها للوصول إلى نقطة تحقيق الذات، وهي القيمة التي تمنحك في نهايتها القدرة على التصالح مع طبيعة العمل، لأنه من المهم جدا أن يدرك الموظف هذا المعنى، ليستطيع تقديم أداء نوعي وناتج إجمالي مُرض، ومن المهم جدا أن يدرك الموظف أن العمل الذي يرتبط به، ليس إلا نقطة أولى ستوصله إلى نقطة أخرى أكثر تقدما من سابقتها، فالوظيفة في نهاية الأمر ليست الراتب الذي يتقاضاه، بل إنها المرتبة الأولى التي من شأنها نقله إلى المرحلة التالية في حياته العملية، من خلال إجادته وتميزه وتكوينه لقاعدة عريضة من العلاقات الشخصية المختلفة عن قاعدة معرفته السابقة، وهنا تأتي أكبر الفرص التي ستمكنه من الانتقال إلى ارتباطات عملية ووظيفية أخرى، قد تحقق له ما يسعى إليه، وهي النظرة السليمة في رأيي لقبول الانخراط في سوق العمل برحابة صدر.

أقول ذلك عن تجربة عملية مررت بها في حياتي، أثمرت في النهاية عن كثير مما كنت أطمح إليه والحمد لله.

فثقافة العمل والمهنة من أهم الثقافات الإنسانية على الإطلاق، وهو ما يجب أن تحرص على نشره كل الثقافات كنوع من الوعي بثقافة العمل وكسلوك اجتماعي نبيل، فالملاحظ أن تلك الثقافة مرتبكة وشحيحة جدا في ذهنية الشباب في معظم دول الخليج العربي على وجه التحديد، وإن بدأ ذلك بالانحسار نسبيا في المملكة العربية السعودية، وهو ما يُبشر بمستقبل جيد سينعش سوق العمل ويقلص من نسبة البطالة.

وتعدّ ثقافة العمل كمفهوم واسع عظيم المقاصد بتأثيرها في المحيط الذي تنشأ وتتشكل فيه، هي علاقة حتمية تنطلق من جذور البعدين الزماني والمكاني، وترسم معالم رئيسية تحترم إلى أبعد حد طريقة الثقافة المكرسة، وربطها بالقيم والمعتقدات لإنتاج أنماط فكرية تحاكي ذلك التوجه، ما يجعلها معبرا فعليا عن الزمان والمكان اللذين تنشأ فيهما، ويترجمها لاحقا السلوك الفردي والجماعي فيما بينه، ويمارسه تجاه الآخر والقادم من خارج منظومته، وهي في نهاية الأمر صناعة إنسانية خالصة، كثمرة حراك اجتماعي يشكل نفسه بنفسه، ويحدث أثرا يستمر في التراكم والتغير، ويؤثر حتى في المحيط الجديد الذي تهاجر إليه من خلال حمل الفرد لها بتغير مكانه، وهو ما يحقق تمازجا مطلوبا فيما بين الثقافات المختلفة، غير أن استمرار الثقافة معزولة عن غيرها من الثقافات يقلص من فرصها في الاستمرار، ويهدد قدراتها في تقوية ذاكرتها الفكرية وتنوعها، وهذا أخطر مأزق قد يعترض طريق أية ثقافة إنسانية على الإطلاق، ولا سبيل إلى تجاوزه إلا ببناء أنماط فكرية ثقافية تتفهم وتتقبل المتغير والتغيير، لتكون قادرة على تقبل مبدأ التعايش وفق قناعات لا وفق مفروضات، وإلا فإنها ستبقى مجرد ثقافة شكلية لا تحمل قيما جوهرية معبرة عن ذاتها الحقيقية أو طموحاتها، ويبقى أن نعي ذلك المفهوم التقليدي ذي النظرة الفوقية لثقافة العمل، هو انحراف لأصل الثقافة نفسها وانتكاسة كبرى لعملية البناء والتقدم وتطلعاتها، وعلينا تغيير مفاهيمنا ونظرتنا البسيطة المتعالية على فكرة العمل والوظيفة كنوع، وإلا فإننا سنبقى حائرين في إيصال مفهوم ثقافة العمل إلى ذهنية الشباب على وجه التحديد..

أحيي ذلك الشاب اللطيف، وكل من يحذو حذوه من أقرانه وأقدر له حسن وعيه، فقد عكس الصورة النبيلة والصحيحة للسلوك الذي يجب أن تكون عليه فكرة الارتباط بالعمل، فالمستقبل ليس له حدود.