"فجراً أهربُ إلى غابةٍ قريبة
خوفاً من زلزال وأبقى هناك
حتى يزورَني الليل
حين أعودُ إلى قريتي
أقودُ سرباً من جياد إلى جدول عميق
قلمي بين أصابعي دائماً
أنامُ واقفاً وعلى كتفي اليمنى فأس".
يكشف هذا المقطع لصلاح فائق من كتابه "دببة في مأتم" (منشورات الجمل، بيروت ـ 2013) عن عالم هذا الشاعر، الذي كان مختفياً لعقدين ثم عادَ بهذا الكتاب وبأكثر منه عبر حضوره الإبداعي والجمالي والإنساني في شبكة التواصل الاجتماعي "الفيسبوك"؛ يأتي شفيفاً بسيطاً، متخفّفاً إلا من زندِ الشعر يُخرِجَ النار الكامنة فيما يمرّ به من مشاهد وما يعبر من حكايات وما يصدرُ عنه من مخلوقاتِ مخيّلةٍ لا تفتأ تبغتُ بما هو غريبٌ وطريف. هي بساطة تخفي العَرَقَ فقط لكنها تنبئُ عن الجهد الشاق والمساهرة التي لا تغفل، في وضعية استعداد وانتباه لا يطرف. فأس يفتح الطريق وعين تتعهد بالوسن سرب الكلمات لئلا تجفل وقلم يقرأُ طيات الحجر وأسراره العميقة.
تأخذه الطبيعة إلى حضنها، يأخذها إلى حنان قلبه، ورقة يديه تختبران بدنها. يدفع الغوائل ويحذر منها. طبيب يرعى وابن يرتقي المشارف يقلب البصر ويهجس بالتقلبات تدهَمُ على حين غرة. يدفع ويدافع ويلتحم. كأنما هذه الطبيعة أمانته وشرفة حياته؛ وريده الذي يصونه، وطفله يكنز له العافية ويقطر على أجفانه ماء الأحلام:
"انتهيتُ مرشداً في هذه المرتفعات
وطبيبَها الدائم. أداوي جبالاً ساخنةً
وأسجل حرارة أعماقها"
"أحب البحر، أقيس حرارة أمواجه وأحذره من اقتراب رياح شرسة من القطب الجنوبي. يبدأ البحر نقل أملاكه، من أسماك ونبات وأملاح وأمواج، إلى بلدان قريبة".
يجري صلاح فائق مؤاخاة وأنسنةً مع الجبل والبحر والحيوان وأثر الأسلاف؛ تحضر في قصيدته جارية في الحكاية. تعوم في الطرافة والغرابة على نحو فانتازي؛ تفارق المعهودية وأنظمة الواقع، تتفلت من السبب وتحل عرى تواصلها مع المألوفية وما يتوقعه العقل (زرافة تبكي في محكمة: ص ص 40 ـ 43؛ حين تطير ثيران مجنحة: ص ص 69 ـ 71). يتخلص بخفة وسلاسة من الخارج، فيما طائر الخيال يحلق في فضاء مفتوح بأجنحة التلقائية؛ ترف في الأفق مروحةَ ألوان تنثر الدهشة في فعل شعريّ متجاوز:
"يرنُّ الهاتف من جديد. لن أرد. أنا مع فريق من المنقبين داخل إحدى قصائدي لنحقّق في صحة شائعات عن مشاهد مهربين، في بعض مقاطعها، وهم يحملون غوريلات صغيرة في أقفاص حديد".
إن القصيدة عند صلاح فائق، متحركة سيالة، مأهولة به شخصاً يشارك في السُّكنَى، وتطفر منها ذبذبات هائلة تنشرها اللقطات والصور التي تتراكم فتنهض من التجاور إلى التفاعل.. إلى تخليق صدى يتردد حياة وشعرا؛ جمالا لم يجده في الحياة ذاتها بأمكنتها الموحشة وإنسانها الموغل في الدم. هنا ـ في القصيدة ـ يلقَى عائدا تعويضيا ويمارس تجوالا يمنحه هواء يتدفق من نافذة القصيدة:
"ساكن هذه الصفحات، أصابه زلزال في إحدى القصائد
تراءى له ملثمون ينهبون متحفاً
فلاحون يهاجمون بئراً
وشاعر يأكل أرقاماً في ظلِّ شجرة.
كانت هناك مياه، صخور
في تلك القصيدة".
ماذا يفعل صلاح فائق؟ يرمي قبّعتَه على العالم ويغمضُ عينيه. هناك يحرّرُ النسق ويخربطه. يفتك بالخيوط. يرفع صلاح فائق قبّعتَه؛ يعتمرها آخذاً العالم في سلّة صيده ويمضي فيما طيور تتبعه تصيح به: إلى أين يا أبي؟
* كاتب سعودي