المقاربة الميدانية التي أجريها - بحكم طبيعة عملي - على عمليات التلقي المعرفي والمعلوماتي لحظة تعرض المتعلمين لها تحيل دوما إلى أن ممارسات مغلوطة وغير مقصودة تأخذ طلابنا إلى متاهات غير مؤطرة ينتفي معها الاكتساب المهاري، بحكم تقليدية الأداء، أو نمطية التلقي، اللتين أضحتا مكونا رئيسا لمشكلة جوهرية على الصعيدين المادي المتعلق في بيئات التعلّم الرتيبة، أو المعنوي المختص بالمجموع المعرفي التراكمي المؤمَّل من تلكم الأنشطة المستنزفة لكثير من الجهود والأوقات دونما حصيلة واضحة نستبين معها المدى الذي يتحرك فيه طلابنا علميا أو مهاريا.

دعونا نضرب مثالا لذلك بفعل القراءة الذي يبدأ مع الطفل ساعة دخوله المنهجي في حالة التعليم والتعلّم، فكيف يستهل هذا الفعل حضوره وتبلوره بدأ من تأتأة الحرف الأبجدي الأول بوصفه وحدة لغوية صغرى، ومرورا بقراءة التركيب الجملي باعتباره وحدة لغوية وسطى، وانتهاء بتشكّل القدرة القرائية للسياق العام للنّص باعتباره وحدة لغوية عظمى؟ بالنظر إلى هذا المسار التقني للقراءة نجد أن حالات التهجّي الأولى ما هي إلا محاولات عقلية تصوّرية للأشكال والأنماط التي عليها رسم الحروف لتتطور إثر ذلك القدرات الذهنية فتعمل على وضع أبعاد للصورة الكاملة، ومع انطلاق القراءة - كعملية آلية - تُملأ تلكم الأبعاد بظلال الكلمات والعبارات لتصبح في النهاية لوحة متصوّرة، أو صورة متخيلة تختلف دقتها ووضوحها بحسب التفاعل الحادث بين آلية القراءة، والقراءة نفسها بوصفها فعلا متجددا من شأنه بناء المعنى وإعادة صياغته وإنتاجه، ومن هذا المنطلق يمكن لنا توقع الفرق بين قارئ مهاري، وآخر "آلي" حين يواجه الاثنان نصّا ما، ثم يراد منهما الولوج إلى بنية النّص وفق استراتيجيات القراءة المعروفة والتي لا يتسع الحيّز للاستطراد فيها، سيكون من السهل الحصول على النتيجة بأن الاثنين سيقرآن غير أن الأول سيُخرج أو قل يصدّر فهما متناميا للنّص وقابلا للتأويل، بل وزيادة على ذلك فإنه يمتلك القدرة على بناء معنى مغاير يخرجه من حالة الكُمون إلى حالة التجسيد، فيما سيواجه الآخر معوقات عديدة، فهو ببساطة لا يمتلك سوى أدوات يسيرة لا تخوله للولوج إلى "ما وراء النّص"، فيبقى على ظاهره لا ينفك يقرأ راسما عدة دوائر على سطح النص دون أن يغوص ويتعمق الأمر، الذي يحتاج معه إلى مبضع قارئ ماهر يتصف بالنفاذية والحدّة. ما نريده ونحلم به هو وجود جيل لا يقرأ فحسب، بل ويستطيع استثمار المعنى لحظة القراءة نفسها بالتفكير والتحليل.