في الفصول الأولى من كتابي "أنا سنية.. وأنت شيعي"، قمت بسرد تجريدي لتجربتي الشخصية التي حدثت في عام 2007، أثناء تحليق الطائرة التابعة للخطوط البريطانية في أجواء البحرين متوجهة إلى مطار هيثرو، بعدها إلى لوس أنجلوس. ما حدث لي أنه بعد أقل من أربعين دقيقة، أصبت بعارض صحي مفاجئ، وهو ما يسمى بـ Panic Attack أو نوبات الهلع. التفاصيل التي عايشتها أثناء تحليق الطائرة بدت قاسية جداً وصعبة، إذ بعد أن قام طاقم المضيفين بمساعدتي، ووضع (كمام) الأكسجين على فمي، ورفع ساقي إلى الأعلى، ومحاولة تدليك يدي ورأسي، لكن بمجرد أن تنتهي أنبوبة الأكسجين عن الضخ، حتى يدب التنميل في جسدي مرة أخرى، فكنت لا شعورياً أعاود البكاء والنحيب. كنت أبكي بكاءً مريراً كالأطفال، كالنساء اللواتي اعتدن اللطم وشق الجيوب في المآتم، كالرجال حينما يفقدون أوطانهم. لم أكن أتخيل أنني سأبقى "للحظة" على قيد الحياة، وكنت أراقب المسافرين ما أن تفتح ستارة قمرة المضيفين، وأبكي مرة أخرى وأنا أشاهدهم يغطون في نوم عميق، بينما أنا وحيدة أصارع المرض والحياة، ولسوء حظي كنت بمفردي فقد سبقتني أسرتي للسفر، وكان المقترح أن ألحق بهم بعد ذلك.

القصة الحزينة التي مررت بها، أذكر منها ذلك المشهد أو ماستر "سين" بلغة السينمائيين، حينما جاءت رئيسة المضيفات، وكانت سيدة متقدمة في العمر وقالت لي بهدوء شديد ووجه شاحب، شعرت لوهلة أنها ستقرص خدي، وكتفي، وتطلب مني الكف عن البكاء "أنتِ تطيرين على أفضل خطوط في العالم، لا تخافي، ستعيشين، من أخبرك أنك ستموتين؟ لم يحدث مرة أن أخطأ أحد طيارينا العظماء"، هذا ما أذكره من السيدة المخيفة، كنت خائفة جداً، وكنت أقول للمضيفين وجسدي يهتز دفعة واحدة، حتى إنهم أحضروا ثلاث بطانيات في محاولة لوقف جسدي عن الاهتزاز "سأموت.. أعرف أني سأموت"، الشعور الذي مررت به، كان زاعقاً، مالحاً، مُراً، عظيماً، مهيباً، مخيفاً، بمجرد تخيلك أنك ستنتهي من هذه الحياة في أي لحظة، بكائي المرير الصاخب كان لشعوري بأنني لن أرى أسرتي مرة أخرى!

وبعد ستة أعوام من الحادثة التي دونتها في كتابي، حتى أستطيع أن أقول للعالم إن الكثير من المخاوف التي نعيشها في حياتنا، يمكننا تجاوزها حينما نعلنها أمام الآخرين، دون خوف مما سيعتقدونه عنا، وبينما كنت أقضي إجازتي في لندن، حتى وقع في يدي تقرير لصحيفة "الدايلي ميل" البريطانية، التقرير كان عن خفايا رحلة الطائرة التابعة لشركة الطيران البريطانية، حيث اضطرت الطائرة للقيام بهبوط اضطراري مرتين خلال أقل من 24 ساعة بمطار الملك خالد الدولي بالرياض. وكان أن تلقت الصحيفة تصوير فيديو لأحد الركاب، رصد بعدسة جواله قيام كابتن الطائرة بتفريغ نحو 20 طناً من وقود الطائرة في سماء الرياض، قبل هبوطها الاضطراري الثاني. وذكرت الصحيفة أن ركاب الطائرة الذين قارب عددهم الـ300 اضطروا للمعاناة من تجربتي هبوط مرعبتين خلال فترة وجيزة، مؤكدة عبر مصادرها الخاصة أن عطلاً أصاب لوحات التحكم في الجناحين كان السبب في كلتا الحادثتين. ونقلت الصحيفة عن أحد ركاب الطائرة قوله "لقد كان الوضع كارثياً بمعنى الكلمة".

لا أعرف كيف استطعت أن ابتلع ريقي وأنا أقرأ التقرير، وسريعاً ما تذكرت حديث السيدة رئيسة المضيفات التي قالت لي، ألا أقلق، فالخطوط البريطانية من أفضل الخطوط.

ومساء الإثنين تابع العالم كله بأسى وحزن، إعلان رئيس الوزراء الماليزي نجيب رزاق أن الطائرة المفقودة سقطت في المحيط الهندي، حيث صرّح في المؤتمر الصحفي بأن ذلك جاء بناء على معلومات جديدة من الأقمار الاصطناعية، أكدت انتهاء رحلة الطائرة في جنوب المحيط الهندي، بينما أبلغت الخطوط الماليزية أقارب الركاب بأن الطائرة لم ينج منها أحد. وقال نجيب "بعميق الحزن والأسف - وطبقا لمعلومات جديدة من الأقمار الاصطناعية- أبلغكم أن الطائرة التي كانت تقوم بالرحلة "إم إتش 370" سقطت في جنوب المحيط الهندي"، وحثّ نجيب وسائل الإعلام على احترام مشاعر أسر الركاب والطاقم، "والسماح لهم بالمساحة التي يحتاجونها في هذا الوقت العصيب للغاية".

رغماً عني بكيت وأنا أستمع إلى الخبر، وعلى الأخص حينما تخيلت أهالي الضحايا وهذه الرسالة النصية تصل إليهم، في الوقت الذي هم فيه بحاجة إلى أي بصيص من أمل "يؤسف شركة الخطوط الماليزية بشدة أن تبلغكم أننا نفترض - بما لا يدع مجالا للشك - أننا فقدنا الطائرة التي كانت تقوم بالرحلة "إم إتش 370"، ولم ينج أحد ممن كانوا على متنها". أظن أنني لست الوحيدة التي بكت في تلك اللحظة، بل العالم بأسره الذي نسي الأحداث المقلقة المجنونة، وبات كل شخص يصلي ويدعو بطريقته الخاصة، بأن يحفظ الله الأرواح الطيبة التي كانت في رحلة 370، أينما كانوا وأينما باتت أجسادهم تنام، سواء في المحيط الهندي، أو في أعراش الغابات الأسترالية.