أجمل ما في الطب أنه أسس على علم راسخ، يزداد نموا مع الوقت بالمزيد من فروع جديدة، مثل الأم الولود الودود بأطفال كثيرين، وحاليا فإن تقنية النانو في الطب، والنوتيس أي الدخول إلى البطن من الفتحات الطبيعية بدون شق وشقشقة، واستخدام الروبوت في قاعات العمليات، والجراحة من بعد (Tele-Surgery)، وجراحة الجينات كلها من هذا الفتح المبين، ولكن أفضل ما تقدم به الطب على ساقين هما علم التشريح والفسيولوجيا، فالأول خريطة يهتدى بها من عصب وعظم ووتر ووريد ولمف وشريان، والثاني آلة عمل، كيف يرتفع السكر في الدم؟ وأين ينتج هرمون التيروكسين من الدرق؟ ولماذا تنشل العضلات بالكورار في التخدير فيصبح ميتا بدون موت؟ أي أن الأول حقله جغرافية البدن المستقرة، والثاني أي فسيولوجيا الجسم نفهم به البدن كآلة كيف يعمل وكيف يتغير ويتبدل على مدار الساعة.

ومن التشريح خرج التشريح المرضي، أي دراسة جغرافية الجسم بعد المرض والموت بالمرض؟ فلم يعد المفصل سويا ولا الشريان أنبوبا نقيا ولا الغضروف لينا طريا، بل هناك التشوهات والأورام والانزلاقات والتضيقات.

أقول هذا لأن الكثير من الحالات نخسرها في المشافي ولا نعرف سر الموت، ليس لأننا سنعيدها إلى الحياة فالأموات لايشعرون أيان يبعثون، ولكن من أجل الاستفادة منها للأحياء.

ولم يتقدم الطب إلا بالتشريح، وينقل لنا التاريخ أن من بدأ رحلة التشريح كان فيزاليوس الإيطالي الذي استفاد من كتاب المنصوري، وقام بشراء الجثث وتشريحها على مضض وسرقة وفضولية رجال الدين حتى ضاقوا به ذرعا فطردوه من إيطاليا وهرب إلى إسبانيا وكانت نهايته طريدا مطاردا على حافة شاطئ اليونان.

وفي كثير من الأحيان يحدث الموت الفجائي فلا نعرف لماذا مات المريض؟ والأطباء في العادة يعزون موت الفجأة إلى ثلاثة، انفجار أم دم واحتشاء قلب واسع وجلطة تسد شرايين الرئة؟

وفي أمريكا على ما سمعت أن أي مريض يموت في المشفى يقوم الأطباء بتشريحه، وأنا شخصيا أذكر حفلة التشريح وأنا شاب صغير حين كنا نسترق النظر إلى غرفة المشرحة التي كانت في حافة المشفى الوطني قريبا من مدرستنا في القامشلي وأذكر الدكتور رفيق أبوالسعود جيدا وهو يفتح صدر جثة ميت، ويعاونه فيها رجل أصفر الشوارب من الدخان، وأنا شخصيا دعيت لتشخيص حالة وفاة رجل في البوكمال على شاطئ الفرات حين عملت في عيادة؛ فتعجبت مرتين من موته وموته بالقتال من أجل الماء، وهو على ما يبدو أنه سيكون حرب الدول في المستقبل ما لم يعقلوا ويتفاوضوا، وصاحبنا طعنه غريمه في صدره فقضى عليه، وتعجبت أنا من ثقب بسيط في الصدر كيف ينهي حياة إنسان.

وفي ألمانيا رأيت التشريح المرضي فقلت إنها ألمانيا أم الدنيا؟ كل شيء بتقاليد وأصول! لقد كانت حفلة تشريح جثة لشاب حاول قتل صديقته ثم انتحر، وكنت شاهدا فيها في ليلة لا تنسى، فلما رأيت كيف يشرحون الجثث وعدتهم وعددهم ومناشيرهم وشفراتهم ومقصاتهم قلت إنها الجراحة بدون دم صدقا وعدلا..

ثم قلت يا حسرة على كل التشريح المرضي الذي رأيته في بلادي. فهنا تشريح وهناك تمريخ.