1

حين تحاول عن فيينا أن تكتب، تستحضر في ذهنك آلاف من كتبوا عنها ممن زاروها أو اتجهوا لمعرضها، وتسأل نفسك: أين أكون الآن؟ وهل غادر الشعراء والكتاب من متردم؟ إنك حقا في فروسية مع مئات الكتاب، بمصطلح جوليا كرستيفا..

2

وقد يعتقد البعض أن الكاتب يكون حينا ملزما بالكتابة استجابة لرد جميل دعوة ما مثلا، لكن قطعا لا شيء حصل، لا تلميحا ولا تصريحا، لكن الفعل الثقافي في المكان والإنسان يفرض شغف الكتابة. وفرض المملكة حضورها في قلب أوروبا بكتابها وبفكرها يعد ملمحا ليس عاديا بل مستفز للمقاربة سيؤتي ثماره ولو بعد حين. وحين كنت أتجول في جناح المملكة في معرض فيينا رأيت أمة من النمساويين والأوروبيين وعشاق الكتاب في العالم يغزلون الجناح جيئة وذهابا، يدخلون بأذهان خالية ويخرجون بتساؤلات ذهنية ستجد إجاباتها يوما. والجناح هنا ليس تقليديا، والقائمون عليه يعون مهمتهم جيدا وهم يؤدون دورهم في نقل الفكر وإثارة التساؤلات. جناح المملكة سيحلق باتجاه الأمل وبمثل هذا الحوار الخفي الذكي سننقل تجاربنا للأمم وسننقل معها سماحة ديننا وروح فكرنا. ولعل ما يبشر بتغيير النظرة عن العرب والمملكة أن الأطفال في معرض فيينا كان لهم حضورهم وتفاعلهم في معطيات المعرض، وهذا سيعطي الأسئلة أن تنمو في بيئة آملة.

3

المملكة تقترب بوعي وشجاعة من حركة العولمة المعرفية، وفي حديث الدكتور محمد العيسى عن المبتعثين ذكر أن مشروع خادم الحرمين للابتعاث يضم حوالى 180000 مبتعث وهو عدد ستكون تأثيراته كبيرة، ناهيك عن مركز الملك عبدالله لحوار أتباع الأديان والحضارات في فيينا، الذي شرفنا بزيارته، وكان يحدثنا فيصل بن معمر عن هواجسه وعن موقف شجاع لأسماء دينية داعمة لرؤية المقاربة، كالشيخ ابن منيع والشيخ الدكتور عبدالله التركي والدكتور الماجد وغيرهم.. لست بصدد التفصيل عنه وعن رؤيته لكن خطوات المملكة التاريخية التي تشع من قلب أوروبا ستستطيع بالتتابع والتراكم أن تثمر يوما ولو بعد مئات السنين. وبغير تلك الخطوات الآملة سنتأخر كثيرا.

4

وبعيدا عن الحضور الثقافي الرسمي وتأثيره -وقطعا إن له تأثيرا في نقل رؤانا للآخر- لكن تجربة معرض فيينا للكتاب تجعلنا نقف بإجلال على قيمة معرضنا الدولي للكتاب في الرياض. ولا أريد أن أقول إن تاريخ معرض الرياض الذي لا يتجاوز السنوات ربما يتفوق على فيينا لأنه لا أحد سيؤمن على ما أقول، لكني أجزم أن تجربتنا تستحق الاحترام وأن التفاف المجتمع حولها سيعيد للكتاب قيمه المعرفية، وسيجعل فرص المزيد من احترامنا تتزايد. ولعل المدهش واللافت لانتباهي في معرض فيينا فعلا تلك العناية الكبرى بالطفل والقراءة له وإحضاره للمعرض وتحمل لعبه وعبثه بل والاحتفاء بعبثه وكأن المعرض جزء من ألعابه وأحلامه.. وهذا هو البناء الحقيقي لمستقبل الكتاب الذي قد لا نعيره الاهتمام الذي يستحقه.

5

وفيما يحيط بالمعرض تجد احترام الإنسان هنا للمكان وقد تحولت عطاءات المعرفة إلى ثقافة تجدها في الشارع الذي يبدو صورة جميلة لجمال الإنسان هنا، لا تجد فيه من ورقة عابثة على امتداده سوى تطاير أوراق الأشجار من بين يديك ومن خلفك.. الشارع يتجاوب مع الوعي القرائي التراكمي وهو يعكس انعكاس القراءة والثقافة كمعطى حياتي، وأفضل تعريف للثقافة في نظري هو الذي ينسب لإنشتاين وهي "ما يبقى حينما ينتهي كل شيء".. تتجسد الثقافة يوما كمعطى ذهني تكويني يتحول إلى فعل تنموي تتلمس آثاره في الحياة، لا تجده كتابا يقرأ، بل فعلا يتحرك.

عند هذه النقطة تحديدا نبدأ الأمل في مستقبلنا مع الكتاب ومع معرض الرياض الذي تجد فيه عشرات الآلاف وهم محملون بأرتال من الكتب تنوء بحملها العربات.. فهل سنجد يوما أثرا لها في شارع الحياة وفي تطور الذهن الجمعي الذي لا يصوره ويكتب نجاحه إلا شارع الحياة ومعركة التعامل.؟!

* أكاديمي