فيما أتصفح المواقع الإخبارية، وقعت عيني على خبر صغير ومقتضب، في موقع الـBBC العربية، السبت الماضي، التاسع والعشرين من شهر مارس على الإنترنت، عن سيدة بريطانية صماء، اسمها "ميلن"، تسمع الأصوات لأول مرة في حياتها، نصّ الخبر: "تغيرت حياة سيدة في بريطانيا تبلغ من العمر تسعة وثلاثين عاما بعد زرع قوقعتين في أذنيها، فباتت تسمع لأول مرة، وقامت والدتها بتصوير لحظات سماعها الأولى حين انفجرت في البكاء. فقد ولدت السيدة صماء وظلت أيضا تفقد قدرتها على الإبصار على مدار عشرين عاما نتيجة حال مرضية نادرة".
http://bbc.in/1iLfMI3
في لقطتين من المقطع القصير، كانت الطبيبة المعالجة تعدّ عليها أسماء الأيام والشهور "الاثنين، الثلاثاء.. مارس، أبريل، مايو، جون... نوفمبر، ديسمبر"، كانت السيدة "ميلن" التي تعرف هذه الأيام والشهور، على هيئة حروف تراها كأشكال على الورق أو في الشاشات فقط، ترتعد بكامل جسدها وتبكي، وهي تسمع لأول مرة كيف تستحيل صور الكلمات إلى أصوات، كانت تبدو وكأن كهرباء تنفضها مرّة، ومرّة تطلق تلك الضحكة الخاطفة والمؤلمة، التي يهرب إليها المصدوم، قبل أن يخبئ وجهه بكفيه ويشرع في البكاء!. تقول السيدة عن نفسها وهي تصف شعورها: "استغرق الأمر بضعة أيام حتى اعتدت عليه، لكن في البداية كان سماعي لصوتي شيئا غريبا، فأمي لها صوت مختلف، وأنا كذلك. كل منا له صوت مختلف"، تقول في لقطة أخرى وهي تسير في الشارع، بفرح عفوي، يكاد يسد حاجة الأرض: "أمشي الآن وأستمع لأصوات الطيور، هذا هو الصوت الذي أريد أن أتعلمه". في نهاية المقطع يقول التعليق المصاحب: "وتقول ميلن، المشرفة على الأربعين؛ إن الحياة بدأت بالنسبة لها".
في هذا الفيديو الكثير من الأثر والتوقف، في أشياء كثيرة ساحرة ومخيفة، مثل علاقة الإنسان باللغة وما في كل واحدة منها من حمولات التاريخ، بالصورة، والصوت، والوظيفة، والتعبير، وأثرها الفاعل والعجيب، وفق بنيتها وبنائها، في الإنسان نفسه، وأيضا مثل حتمية الصوت المختلف وفرادته، ليس في نبرته فقط، بل وفي معناه وإفصاحه عن إنسانه، عن تجربته وعالمه ورؤيته وموقفه من وجوده، ومثل ما بحوزتنا ولا ننتبه له، حين سلب السائد بنفوذ أمراضه، وطبيعة الاعتياد، وقدسيات الشَّبه والجهل والتقليد، ومحو الفرد... الخ، ممّا معناه. تبدو السيدة "ميلن" كطفلة لم تدخل المدرسة بعد، محتفظة، بما تبقى من صفائها الطبيعي، وهي لا تدري. إنها تخرج وتمشي بفرح، وتريد سماع الطيور، وتعلّم أصواتها.