ذات إخلاص علمنا إياه الدكتور إسماعيل البشري، وقبل ما يقرب من 20 عاما، دخل علينا أبو محمد في "لجنة الأسئلة" بكلية اللغة العربية بأبها هاشا باشا، وقال: "أبشركم جانا ولد".. باركنا له وطلبنا أن تكون العقيقة في لجنتنا الأكثر كدْحا حينها.. وقبل أن يخرج قال لي مازحا: "ترى سميناه أحمد.. إذا تبغى السموّة، فقم بالواجب"، في إشارة إلى واجبات السميّ نحو سميّة في العرف الجنوبي.

تردد هذا المشهد على ذاكرتي ألف مرة، منذ سمعت نبأ وفاة أبنائه الثلاثة وزهرتيه.. كان هذا المشهد مربوطا بصور الحادث، وبحديث طويل حدثني إياه الدكتور إسماعيل ذات انفرادٍ كان حريصا عليه بحب، في غرفته بأحد فنادق جازان قبل أكثر من عامين، حيث أتى حديثُه على تربية الأبناء أكثر من مرة، رابطا ذلك بتجربته في جامعة الشارقة، وبرؤاه حول المستقبل من الجهات كلها، وما زلت أذكر أنه قال بالحرف الواحد: "القلق من المستقبل هو قلق على الأبناء في الحقيقة".

مشهد فرحة أبي محمد بولادة أحمد، كان يحول بيني وبين النوم، وإذا نمت وجدته يحضر "كابوسا" يعيدني إلى الأرق، ولذا حرصت ـ عبر يومين كاملين ـ على ألا أخرج من بيتي أبدا، ولا أجيب عن أي اتصال هاتفي، لثقتي في أن أكثر المتصلين يريدون السؤال عن تفاصيل الحادثة التي لا أعرفها، لأنني لا أريد معرفتها، وتلك طبيعة "هروبية" فاشلة لا يدرك كنهها سوى البكّائين من أمثالي؛ لأنهم يهربون من أطراف الحزن إلى وسطه.

كنت، على مدى يومين، منزويا في ركن التفاصيل، أطارد الذكريات المربوطة بالحادثة. والجلوس في ركن التفاصيل، عند احمرار الأحزان، عادة نفسية سيئة؛ لأنها تخلق في القلب حجرات جديدة لا يسكنها غير الألم، لكن هذا الجلوس يعيد الإنسان إنسانا كما أراده الله، ويجعله يصر على التخلي عن صراعات كثيرة، إيمانا منه بأن الحياة غير جديرة بالصراع إلا من أجل المبادئ، حتى إن الانزواء في ركن التفاصيل التي تضاعف الحزن، يجعل المُنزويَ يحتقر كل "المصارعين" على الدنيا دون هوادة أو هدى، إلى أن جعلوا الحياة توتّرا وغضبا وأحقادا بعضها فوق بعض.

فشلتُ خلال هذين اليومين في التفكير، وفشلت في الكتابة، وفشلت في التواصل، وفشلت في كل شيء سوى البكاء والحزن واستعادة ما تبقى من إنسانيتي، حتى إنني فشلت في إيجاد موضوعات للكتابة تخرجني من الألم، سوى الكتابة عن الألم.

حزن أبي محمد ليس خاصا به، وإنما هو حزن كل من عرفه وعمل معه.. رحم الله أبناء الدكتور إسماعيل البشري، وأسكنهم جناته الفسيحة، وألهمه وذويهم الصبر.