حين يُطرح موضوع الشك على طاولة النقاش، ففي الغالب سيتجه الحديث عن الشك في الغيبيات "الله، الملائكة، الأنبياء... إلخ".. سيُقال إن الشك في هذا الاتجاه ضرورة؛ لأنه شك في الماورائيات، حيث تتوقف قدرة العقل عن الإدراك والاستيعاب، وليس أمام الإنسان في هذه الحالة إلا الإيمان أو التكذيب أو الشك حتى الوصول إلى قرار.
ومثل هذا التبرير يعني صراحة أن الإنسان حين يعجز عن الإدراك والاستيعاب سيُوجِد لنفسه سببا مقبولا لحالة الرفض وعدم التصديق، سيشك ثم سيتفلسف عن هذا الشك، سيُحاول بشتى الطرق أن يُطمئِن نفسه المضطربة بأنه على ما يُرام رغم أنه محتار!. ومن هنا يُمكِن القول إن العِلة كلها في الإنسان لا في كون الغيب غيبا، بمعنى آخر: إن الشك والتكذيب والرفض أهون عليه من الاعتراف بأن عقله قاصر وتفكيره محدود.
ولو أدرك الإنسان أن محدودية تفكيره وأن عقله مُهيأ للإلمام بالجزئيات دون الكليات لما أنكر الغيب! فمحدودية العقل ميزة فيه وليست عيبا، ولأن صفة المحدودية في العقل هي المسؤول الأول عن حالة الشغف الدائم والفضول والتعطش إلى المزيد، هي الدافع لطرح الأسئلة تلو الأسئلة مع عدم الاقتناع بكل الإجابات، ولو لم يكن العقل محدودا لتوقف الإنسان عن البحث، لولا الإحساس بأن هنالك غيبا، ما أوغل أحد في بوادي المعرفة.
إن عدم الاعتراف بمحدودية العقل من شأنها أن تهدم غاية العلم، تلك الغاية التي وضحها الإمام الشافعي في قوله: "كلما أدبني الدهر أراني نقص عقلي، وإذا ما ازددت علما زادني علما بجهلي". هذه هي غاية العلم، إنه يجعل الإنسان يدرك حجم ما يجهل لا أن يدرك بأنه لا يجهل، أن يجعله يتيقن بأن هنالك غيبا فيسعى إلى كشف الستار عنه، لا أن يجعله ينكر الغيب؛ لأن الإنكار هنا يجعل العقل يتعطل.
لكن أي علم هذا الذي يجعلنا نؤمن بوجود الغيب؟ سؤال أطرحه حتى لا يظل الشك دائما تجاه الغيبيات، فالشك يجب أن يطال حتى ما يراد لنا أن نتعامل معه كحقائق علمية لا تقبل الجدل أو التشكيك، أي علم هذا الذي يجعلنا نؤمن بالغيب، وينزع ذلك الوهم الذي يراد له أن يكون كالحقيقة بأن العلم يناقض الدين؟ هل هو العلم الحق أم العلم الأعرج الذي نحى الله والأنبياء والأديان وكل الغيبيات ثم جاء بخزعبلات تُحيط بها "بهرجة علمية"؟.
يا سادة، إن العلم اليوم ليس وديعا مسالما حياديا على الدوام، إنه موجه إلى الوقوف عنوة في الاتجاه المعاكس للدين، موجه بشعارات العقلانية والتحضر والتمدن والحداثة والتنوير، "الطبيعة الأم" في العلم الأعرج مجرد مصطلح لتعبئة الفراغ الذي سببه غياب مفهوم الخالق، والشمبانزي هو الأصل تجنبا للاعتراف بأن الإنسان مخلوق، والصدفة هي التفسير غير المنطقي لنشوء الكون كفرا بالتفسير المنطقي أن خلف هذا الوجود موجد، فأين العقلانية والحداثة والتنوير في هذه المفاهيم العلمية؟ أين التحضر ونحن نصف أسلافنا بأنهم كانوا يهيمون في البراري يكسوهم الشعر كبهيمة الأنعام، ومنهم من يسير على أربع ومنهم من يتسلق الأشجار؟! أين التجرد حين يقول العلم: إنه ليس بعد الموت بعث إنما عبث وهباء؟ أين التفكير العلمي حين يقال إن الديناصورات تطورت إلى طيور، وإن الحوت الأزرق كان في الأصل غزالا!.
إن الإنسان ليستغرب حين يتأمل حال أدعياء العلم الأعرج، يستغرب أنهم لا يزالون يرددون نفس المقولة التي رددها بنو إسرائيل قبل آلاف السنين: "لن نُؤمِن لك حتى نرى الله جهرة"، هذا هو العلم الذي لا أثق فيه، وإن ظهر أمامي بصورة رصينة تحيط به بهرجة علمية وشهادات فخمة، سيظل في نظري دجلا وهراء، نعم لا أثق في هذا العلم، ولا في كلام عالِم يستغل مكانته العلمية المرموقة ليخبرني أن البديل المنطقي عن وجود خالق للكون هو الصدفة، وأنه حتى ينشأ كونا قابلا للحياة بالصدفة، فهذا يتطلب الإيمان بوجود عدد من الأكوان يفوق عدد كل حبة رمل على الأرض "ريتشرد دوكنز".
خلاصة القول: إن الإنسان لن يستطيع التقرير سواء بالتكذيب أو التصديق إلا عن طريق العقل ـ على علاته ـ ولا توجد أدوات أخرى أمام الإنسان ليقرر إلا الأدوات العلمية بجانب التأمل والوعي، لكن كي يصل المرء إلى الحق الذي ينشده عليه أولا: أن يتجنب حالة الانبهار التي تصيبه وهو يقرأ أو يستمع إلى عالِم يحيط نفسه بالبهرجة العلمية، حتى يُمرر إليه فكرة إلحادية، وثانيا: أن يزرع الشك في كل اتجاه، لا أن يشك في الغيبيات ثم يتلقف الخزعبلات العلمية على أنها يقين لا يقبل الشك، وثالثا: ألا ينظر إلى العلماء وأساتذة الجامعات أنهم دائما الحمل الوديع، فبعضهم كالساحر الذي يستغل وجود فتاة جميلة بجانبه، حتى يمرر خدعته، وأخيرا أن يتعلم المرء كيف يفكر بعيدا عن قطبي النزاع، فالمسألة برمتها بين هؤلاء وليست بين العلم والدين.