إن الحكايات والأساطير البديعة ستبقى آثارا خالدة وفريدة، ويشهد على ذلك العصر حين كان الوعي البشري يشعر بأنه في تداخل سيال، وفي وحدة بهيجة مع الطبيعة، فوقتذاك وببساطة ودون عناء أو عذاب كان الوعي يخضع لعالم الروحية المستفيضة، التي لم تكن في البدايات محددة أو محدودة، بل كانت كأنها تلعب وتتمتع ببراءتها بسلطة على الأشياء غير مثقلة نفسها بردود الفعل، حول مدى التوافق بين تصوراتها والأشياء الحقيقة، ولذا كان إنسان الكهف يتصل بمعطيات الطبيعة اتصالا مباشرا دون حدود أو محددات، فأبدع وصنع النول والمحراث، ونقش على الكهوف وفكر في قوى أخرى، وحاول الاتصال بها.

وما يهمنا في مقامنا هذا، هو التواصل رغم زخم الاتصال. فالتواصل هو ما يقتات عليه المفكرون والمبدعون؛ لتفعيل الشريان الدافق في عروق الأمة العربية، فلا يحمل الفكر بالاغتراب في المشهد الثقافي العربي، فالمفكرون يأملون في يوم يستبطنون فيه ذواتهم ثم يقولون فيفعلون، يقول الكاتب القصصي صبري موسى: "أنا لا أحمل المثقف المسؤولية، فهو لا يتحكم في أجهزة توجيه أو تثقيف وتوعية الجماهير لتعي وتدرك، فكيف يغير الأوضاع السليبة وهو محكوم بهيمنة غير المثقفين ليس أمامه غير الانسحاب"، ثم يقول سيد رشاد في الأهرام العربي: "إذا كانت الظروف التاريخية أتاحت الفرصة لأصابع "ما" لتوقف انطلاقة الثقافة العربية لعقود طويلة، وتجتهد لتمزيق هويتها الحضارية مستقبلا، فإن اللحظة التاريخية الفارقة التي تمر بها الأمة العربية الآن، بما تفرزه من ضغوط هائلة وتحديات خطيرة، تجعل إعادة صياغة المستقبل قضية مصيرية لا تقبل التسويف أو التقاعس ويقول الدكتور قدري حنفي: "الإشكالية التي يجب الانتباه إليها جيدا هي الخط الفاصل بالضبط بين الفكر والممارسة".

هذه الضغوط تخلق نوعا من الاغتراب الفكري، فالاغتراب هو جهد متصل للبحث عن المجالات التي يستطيع الإنسان أن ينتصر فيها على جميع أنواع القهر الاجتماعي والاقتصادي والأيديولوجي؛ حتى يصل إلى تحرير نفسه تحريرا حقيقيا. فالإنسان يضيع نفسه عندما يصبح غريبا عنها. والمسرح الذائب في بوتقة الفكر يقتات على عنصر التواصل العربي، والمحلي، وبمصطلح أدق التواصل النفسي.

ومما لا شك فيه، أن المسرح العربي قد حقق وجودا ملحوظا بعد أن استوفده المسرحيون الشوام واستقر في مصر، ثم انبثق في أرجاء الوطن العربي، فتأسس في البحرين نحو 1925، وفي السعودية 1932 والكويت 1938، فضلا عن وجوده في اليمن قبل كل هذا، إضافة إلى المسرح في بلاد المغرب العربي، وتفاءل العرب ودعا المنظرون إلى إيجاد هوية عربية خالصة. إلخ.

ورغم هذا الانتصار واسع المدى عبر ما يقرب من القرنين من الزمن، إلا أننا نجد التواصل المسرحي في الآونة الأخيرة يحتاج إلى كثير من الجهد في الموازنة بين سيكلوجية المتلقي وما يحمله من هم، وبين ما يقدم على خشبات المسرح في كل مكان، فلا يحقق ذلك التداخل السيال الذي أشرنا إليه، ولا يحقق تلك الوحدة البهيجة بين المرسل والمتلقي.

الثيمة المسيطرة: للمسرح دوره الفعال وانعكاسه المباشر في المجتمع مثل: المسرح السياسي، المسرح الاجتماعي، مسرح الطفل، المسرح التعليمي، وفي السعودية مسرح المرأة.. إلخ.

والمتتبع للنشاط المسرحي في الوطن العربي يجد أن الثيمة المسيطرة عليه هي ثيمة القضية العربية والغزو الأجنبي:

1- مثال ذلك في العراق عرض "رحلة أم الخوشي" عن مدن الملح لعبدالرحمن المنيف من إخراج وإعداد محمود أبو العباس تعرض هذه المسرحية النزاع على النفط وحرب الخليج.

2 – مسرحية "عيون ماريا والسيد بيار" عرض بالأردن من إخراج وتأليف نادر عمران. عرض يطرح ثيمة الوطن العربي أمام طوفان العالم.

3 – عرض "عن الغزو الأجنبي" عبدالحق الزوالي.. الخ.

4 – مسرحية "لعبة الكراسي" للمسرح السعودي وهي تعرض القوة المسيطرة على العالم، وما يسمى بالقطب الأوحد وإشكالية العولمة.

فضلا عن عروض عدة في المسرح المصري آخرها "لن تسقط القدس".

ما أحوجنا لمثل هذا النداء، بل لا بد في هذا العقد الثقافي الجديد أن يكون المسرح العربي جاهزا لخوض المعارك الفكرية، خاصة في وقتنا الحاضر. لكن هناك جوانب أخرى ظلمت في تداول الرسائل المسرحية. وعلى سبيل المثال مسرح الطفل، فبالرغم من أصالة مسرح الطفل وقدمه قدم المسرح في العالم، إذ لم يسبقه بالفعل سوى شذرات الفرجة الشعبية وعرائس شرق آسيا في الهند واليابان منذ ما قبل الميلاد، إلا أن مسرح الطفل يتضاءل ويتراجع أمام الكثير من المعوقات.

فالطفل الذي لا يحتاج إلى تغيير سلوكه بقدر احتياجه إلى التصرف تصرفا يتناسب والعناصر المحسة لوقت معلوم؛ فهو يستفيد من صورة تمثل تمثيلا حرفيا أكثر بكثير من كل ما مر به من تفاصيل حسية. ولن يغني عرض وحيد عابر لتمكن الطفل الصغير من استمرار المنبه، فالصورة دائما تتحرك في مخيلته بلعبها كما يتخيلها عالما زاخرا. فلا بد من عالم زاخر بالدراسات النفسية لخلق عرض مسرحي يحفظ للطفل تواصله الدائم في العرض المسرحي.

المسرح الاجتماعي: إن ما تدمره العولمة أو ما يفد عبر القنوات والسموات المفتوحة في البنية الاجتماعية، هذا وإشكالية العولمة والخوف على الهوية العربية يمكن تداركه ومعالجته بالمسرح الاجتماعي وطرح المشكلات، مثل الحفاظ على القيم والمواءمة بينها وبين المستورد منها، كثرة الطلاق، العنوسة، البطالة، المخدرات، وذلك لتعزيز قيمة الهوية العربية التي يراد انتزاعها في ضوء النظريات الحديثة.

غياب هذا الطرح ـ الذي يمس الوجدان والعقائد وهي أهم أدوات التلقي النفسي لدى المشاهد ـ قد يخلق هوة سحيقة بين الاتصال والتواصل. إذن قد يحضر المشاهد ويتصل بالقناة المرسلة وهو المسرح، ولكن يغيب عنه تواصله الوجداني فيفقد ذاته في الرسالة وهمه فينفصل.

غياب الدور الإعلامي وترويض نفسية المشاهد لتلقي العروض الهادفة بعيدا عن لغة الإسفاف والضحك المبتذل، هذه بعض النماذج ولا يسعفنا الوقت لطرح أكثر، إلا أنه أيضا يلزم محو مفهوم أن المسرح وجد للإضحاك فقط.