كان يا مكان في قديم الزمان فن أدبي اسمه "القصة القصيرة". لا أدري إذا كنتم تذكرون تلك الأيام التي كنا نقرأ فيها القصص القصيرة المكتوبة بلغة أدبية رفيعة وبصور مكثفة؟ تذكرون لما كانت النوادي الأدبية تعقد الأمسيات القصصية ويحضرها الجمهور المتطلع لسماع كبار كتاب القصة القصيرة؟

هذا الزمن انتهى (مع الإقرار بأن هناك بعض من يكتب القصة القصيرة)، وجاءت بعده الرواية، ليست تلك الرواية الأدبية العظيمة التي تخلد عبر الأجيال، بل تلك الرواية التي هي أشبه بالقصة الطويلة، وتحمل مضامين ثقافية وفكرية، كمحاولة للتعبير عن الفكرة بشكل غير مباشر، وظهرت روايات عديدة حتى قال أحد الساخرين: في بلادنا يوجد لكل قارئ رواية. كان هذا فقط بضع سنوات خلت، ولكن الرواية هذا العام في معرض الكتاب تنزوي في ركن ضعيف بعد أن كانت حديث الناس وموضع جدلهم.

الحقيقة هي أن الثورة الرقمية قد غيرت أسلوب استهلاكنا للمعلومات بشكل عميق وسريع حتى صارت هذه الصيغ الأدبية لا تلبي حاجاتنا، ولا تتجاوب مع إيقاع الذهن الذي يركض بجنون من فكرة إلى أخرى.

لكن احتياج الناس للقصة لم ينته. القصة هي وحدها القادرة على الحديث مع عواطفنا والتجاوب مع خيال الإنسان الجامح، وهي وحدها التي تستطيع التعبير عن الكثير مما نشعر به. وإذا كانت الدراما التلفزيونية والسينمائية تلبي الكثير من ذلك الاحتياج، إلا أن العصر الرقمي أعطى نوعا جديدا من القصص للظهور والنمو المتسارع، وهي باختصار "القصص الرقمية".

هذا الفن ليس فنا جديدا يبحث عن طريقه، بل هناك حاليا أكثر من 30 قسما جامعيا في أميركا وحدها يمنح البكالوريوس في "القصة الرقمية" (Digital Storytelling)، وهناك قسم بكالوريوس مماثل في الجامعة الأميركية في دبي، وهذا لأن القصة الرقمية صارت أسلوبا مفضلا في التعليم، ومستخدما بشكل واسع في التسويق من قبل العلامات التجارية، وله استخدامات أدبية وفنية مبهرة بحق.

تحاول القصة الرقمية أن تستفيد من هذا الشغف الإنساني الجديد بوسائط الميديا المتعددة (الفيديو، والصورة والصوت والموسيقى والنص المكتوب)، وهي تحاول عرض أي قصة من خلال استخدام هذه الوسائط كلها في مساحة واحدة، يتراكم من خلالها التأثير، ويستخدم كل نوع من الوسائط حسب مناسبته. استخدام الوسائط يتوسع مع الزمن لتشمل الكثير من الأفكار التفاعلية وحتى ألعاب الفيديو.

بشكل آخر، القصة لم تعد تمضي من كاتب القصة إلى جمهوره، بل هي صارت تتحول إلى بيئة تفاعلية يعمل فيها فريق من المبدعين الذين يستخدمون فيها هذه المدخلات كلها، ليخرج منها بقصة يتفاعل معها الجمهور بمختلف التقنيات، بحيث يمتزج هذا التفاعل مع ما يفعله الفريق.

بدأ الاستخدام الواسع للقصة الرقمية في المدارس الأميركية، حيث اكتشف المعلمون أن القصة الرقمية تكاد تكون الأسلوب الأمثل لجذب انتباه وتفاعل الطلاب، وفي الوقت نفسه، حشد كم جيد من المعلومات والأفكار التي تثبت في الذهن. القصة الرقمية أثبتت أيضا أنها الوسيلة الأمثل لتعليم الطلاب أساليب إنتاج المادة الرقمية باستخدام كافة برامج الكمبيوتر بأسلوب فعال وجذاب. هذا التعليم صار حيويا جدا في المدرسة الأميركية والأوروبية مع تحول فهم هذه البرامج لضرورة في سوق العمل وفي المشاريع الجامعية لاحقا. أضف إلى ذلك كله، أثبتت القصة الرقمية أنها الأسلوب الأمثل لاستفزاز الطاقة الإبداعية لدى الطلاب (من يدري، قد يقرأ هذه السطور أحد صناع القرار في وزارة التربية والتعليم ويفكر بأنه قد آن الأوان لشيء من تطوير المناهج لدينا).

بعد ذلك جاءت الشركات والعلامات التجارية لتستخدم القصة الرقمية، وتتوسع في ذلك كوسيلة جديدة للفت انتباه الجمهور في وسط الإدبار الجماهيري العام وانخفاض التأثير التدريجي للإعلانات التقليدية. القصة الرقمية كانت أيضا أسلوبا إعلانيا مناسبا بحيويته وتأثيره مقابل الشريط الإعلاني البارد الذي ينشر على المواقع، وهي كذلك مناسبة للشبكات الاجتماعية (فيسبوك وتويتر ويوتيوب)، والتي تحاول الشركات الحضور فيها والتسويق من خلالها للجمهور.

أحد الأمثلة الجميلة لقصة من هذا النوع كانت مشروعا لشركة كانون التي طلبت من المخرج الأميركي الشهير رون هوارد أن يخرج قصة رقمية مكونة من الصور والفيديوهات التي يرسلها عملاء كانون. النتيجة كانت عبقرية، حيث اختار هوارد من آلاف الصور والفيديوهات التي وصلت لكانون عبر موقعها على الإنترنت ليصنع قصة رقمية لإنسان بدأ طفلا وانتهى شيخا، وكيف مرت به فصول الحياة، بشكل مثير للعواطف والإعجاب في آن واحد. في هذه الحالة استطاعت العلامة التجارية أن تخلق تجربة تفاعلية ولها أثر أعمق بكثير في نفوس الجمهور من حملة إعلانية لا تختلف عن الحملات الإعلانية.

الجمعيات الخيرية والمؤسسات الحكومية الغربية تحاول فعل الشيء نفسه. إحدى المنظمات الخيرية الأميركية (Charity:Water) ركزت على صناعة قصة من تبرع الناس بقيمة هدايا عيد الميلاد لتوفير الماء النظيف لأطفال أفريقيا. استخدم مؤسس الجميعة حكايات الأطفال والأسر المتبرعة ليحولها لقصص رقمية، جعلت جمعيته الخيرية إحدى أكثر الجمعيات شعبية على الشبكات الاجتماعية.

كنت دائما أقول في السابق إن الإنترنت سمح لـ"حكاية الإنسان العادي" بأن تصبح جزءا من المادة الإعلامية. القصص الرقمية هي الشكل الأمثل لاستخراج تفاصيل حياتنا الجميلة وتحويلها إلى محتوى ممتع ومفيد في آن واحد. التفاصيل الجميلة في حياتنا هي التي ستعطينا التفاؤل وتعزز أحاسيس الحب لدينا لمن حولنا، مقابل الجدل السياسي والآيديولوجي السلبي الذي نراه كل يوم على الشبكات الاجتماعية.

بدأ الإنسان بحكاية، وستبقى الحكاية هي عمود الثقافة الإنسانية، الوسائط والأشكال فقط هي التي تتغير، الفرق هنا أن الحكاية صارت ثمينة جدا!