منذ ثلاثة أشهر، ترقد "أم سلمان" في غيبوبة مكتملة بالدور الثاني في مستشفى عسير المركزي. أما أطفالها السبعة فما زالوا يعيشون على الأمل القاتل أن تعود الدماء إلى الرأس المعطل، وهم يسكنون اليوم في ذات "القبو" الذي تستحيل فيه حياة آدمية تحترم الحد الأدنى لكرامة الإنسان، فكيف سيكون الحال إذا تحالفت ظروف المرض والعوز والحاجة.. وكلها مصطلحات تسكن اليوم كل جوانب حياة هؤلاء الأطفال السبعة؟ يعمل والدهم حارس أمن بـ"3200" ريال في الشهر، ويدفع "ألفاً" منها أجرة سكن لهذا "القبو" المخيف، ولكم بآلة الحساب، أن تتدبروا ما تبقى من المرتب لتعرفوا ميزانية كل طفل منه في الشهر الواحد. غبت عن هؤلاء الأطفال لفترة طوووويلة، وحين عدت إليهم قبل قليل سأكتب لكم في جملة واحدة قمة المأساة وذروة القصة: اكتشفت أن محسنة كريمة قد خيرتهم بين الغداء والعشاء لوجبة مجانية فاختاروا العشاء لأنه يجمعهم بعيد المغرب مباشرة على صحن واحد. شعرت بالخجل الشديد من هذه "الأنا" الجماعية المفرطة التي تركت أطفالنا هؤلاء للتصويت على الخيار الأسري لموعد وجبة. شعرت بالخجل الشديد حين علمت أن "البنجالي" الكريم من دكانه على رأس الشارع يرسل لهم آخر كل مساء علبة الجبن وحزمة "الصامولي" وعلب العصير لفسحة الأطفال المدرسية. بيض الله وجهه.. ومع هذا ما زلت أظن أن "تخمتنا" البليدة أولى بأبنائنا الشرفاء، ثم يسبقنا إلى هذا الفضل أخ كريم وافد. شعرت بالخجل الشديد وأنا أرسل نظراتي إلى كل زاوية من هذا القبو المتهالك، ثم تقع عيناي على طفلين نائمين ببطانية واحدة، فمن هو الذي ما زال يتخيل في عصر المليارات والطفرة والتخمة شراكة طفلين في بطانية؟ عرفت هذا "القبو" شريفاً نظيفاً طاهراً عفيفاً جداً جداً عن سؤال الناس. خرجت من عندهم على وقع جملة من طفلة صغيرة لن أنساها ما حييت وهي تقول: "يا عم، يوم كانت أمنا معنا ما كنا نجوع". وبالطبع هي تشكو الجوع إلى كل شيء: من المعدة إلى العاطفة، وللأسف الشديد، انتهت المساحة ولم أكتب بعد شيئاً من وصف المشاهدات وتوصيف القصة. هم مساحة مشرعة للفضل والفضيلة.