معظم أفعالنا الآن تحدد ملامح وعينا المبكر، وبالذات النشاط الذهني وما ينعكس من خلاله من سلوكيات ومفارقات في مرتسمات حياتنا، ووظائف اتصالنا وما نختزنه في طيات نفوسنا، وبالذات التحصيل المعرفي، ولذا فما زلت متعجبا في كيفية سلامة عقولنا وطرائق تفكيرنا ونواميس وجودنا، رغم أننا ضحايا مفاهيم ومواقف ورؤى متوحشة وقاسية وبدائية، متوالدة من أساليب تربوية خاطئة ومشوهة ومنفرة، والحديث هنا عن جيل عاصر مرحلة البدايات التعليمية حتى مرحلة قريبة، حضر فيها كثير من المتغيرات وتقلص كثير من المخزونات التراثية التي كانت تعتمد على نظرية "لك اللحم ولي العظم، ونظرية يا راغب يا راهب"، وتهميش القيمة العقلية والتفكير الإيجابي المنتج للمعرفة. لا أعتقد أن تلك القسوة والمداليل العنيفة لمعلمي تلك العصور تنطلق من نزعة عدوانية وتخلقات كارهة ومستبدة ونوايا انتقامية، ولكنها خضوع للسائد والمعطى المتوافر في حينه، والاستجابة لذخيرتهم المرتهنة لتلك الطبائع والسيرورة التاريخية لمفهوم التعلم والتعليم عندهم، كنت أرى "فصلي الدراسي" في المرحلة الابتدائية يشبه "المسلخ".

ففي صبيحة ذلك اليوم الأسود سأل أستاذ التاريخ وهو من الأشقاء العرب: متى ولد الشيخ محمد بن عبدالوهاب ومتى مات؟

لم يجب أحد منا وهنا انفتحت مصاريع العذاب والتنكيل، وقد هان ما لحق بي من أذى حين أبصرت كف صديقي تتدلى كعود القصب اليابس، بعد أن كسرت تحت وقع تلك الهراوة لتصل القضية إلى المحاكم، لتصدر حكمها بدفع مئة ريال لأسرة صديقي، التي قامت بشراء أرض صغيرة بذلك المبلغ في حي الخشع بأبها، وإقامة بيت من "الشَعر" فيها كسكن لهم، أبصرت فرحة ذلك المعلم الجبار عندما علم بتعطل وتلف سير طاحون الحي، لينحدر إليه مسرعا للحصول على السير وتقطيعه إلى شرائح لتحل مكان "أغصان الرمان" التي اشتهرت بلسعتها الملتهبة كالجمر على الجسد الغض، لمست ذلك المعلم الوطني حين سأل أحدنا في مادة اللغة العربية وفي موضوع "ضمائر المخاطب" وطلب منه أن يضع كلمة "كلب" في جملة مستخدما ضمير المخاطب، فقال صديقي بكل براءة وعفوية "أنت الكلب" ملتفتا للمعلم مما أثار حفيظته وغضبه، وجعله يردد بصوت هامس "طبك عندي" وعندما جاءت حصة الأناشيد بادر المعلم صديقي قائلا: ما معنى كلمة "متون" الواردة في النص الشعري فلم يستطع الإجابة، وهنا بدأت الحفلة الانتقامية والتعذيب الجسدي، والطب البديل المكون من الوقوف على قدم واحدة، ووضع أصابع اليد على "الماسة" الخشبية وضربها بالمسطرة، وأخيرا استدعاء "الفرّاش" وبصحبته "الفلكة" وتعليقه أمام التلاميذ كالشاة المذبوحة والمعلقة في المسلخ، ولذا أعتذر من أبنائي التلاميذ الذين قسوت عليهم إن قسوت، فقد كنت ضحية تلك المخرجات والعذابات والإرث الدفين وعودا من حزمة "الرمان".