في تقدير الخسارة نختلف مع بعضنا البعض، كما نختلف في بصمات الأنامل تماما، فمقدار ما يخسره الفقير لا يكون شيئا عند آخر غني، مثل ميزان الأحلام تماما، فما تحلم به أنت الذي تنتمي لذوي الدخل المحدود يختلف تماما عن حلم عامل نظافة يعمل على تنظيف شارعك، ويقف أمام مطعم شواية بخاري رخيص دون أن يدخله، وحُلمكما يختلف تماما عن ذلك الشخص الذي يتناول وجبة إفطار شهية في أغلى مطاعم باريس ويتعامل مع المليون في حسابه وكأنها مئة ريال!

حتى تلك التفاصيل الصغيرة التافهة، فيها نسبة وتناسب خلال حياتنا وحتى مماتنا، هكذا تكون معادلة الكسب والخسارة في كل شيء كان، تخسر شيئا وتكسب أمامه آخر، ومهما كانت الخسارة مُرة فهناك كسب لا تشهده أحيانا إلا بعد حين، قد تخسر المتعة والصداقة مع صديق يغادر حياتك بإساءة لك، لكنك في المقابل كسبت حاجتك في التخلص من شخص دنيء! أحيانا تخسر في تجارتك.. في دراستك.. في علاقاتك الإنسانية.. في صحتك.. لكنك تكسب تجربة جديدة في حياتك.. قوة.. متانة.. قدرة.. تصالح مع الذات، وتبقى خسارة شخص عزيز عليك بموته بمثابة الخسارة التي لا كسب منها سوى إثراء ذاتك بمساحات عواطف أحيانا تجف كثيرا ونحتاجها كي نشعر أننا أحياء! وربما هذه الخسارة نظنها في أولى اللحظات الخسارة الكبرى، فموت عزيز دون شك خسارة لا يمكن تعويضها ولا مقارنتها بخساراتنا المادية، كل شيء يمكن تعويضه إلا موت الأحبة يغادرون ويتركون مساحاتهم فارغة في حياتنا! ومع ذلك هناك خسارة أكبر من ذلك تماما كما يقول الشاعر والمسرحي السوري محمد الماغوط "الموت ليس هو الخسارة الكبرى، الخسارة الأكبر هو ما يموت فينا ونحن أحياء"! إنها المعادلة الصعبة.

وبصدق، هناك أناس يبدون أحياء من حولنا.. يعبرون بنا كل يوم وبعضهم في مناصب عليا، وآخرون يشربون القهوة معنا.. لكنهم أموات يفتقدون الطمأنينة في قلوبهم..! يشبهون الأشباح في كثير من الأحيان وهم أحياء، ولا تعلم لماذا يفعلون بأنفسهم ذلك، يظنون الحياة ركضا مستمرا خلف الكماليات، فتموت داخلهم الحياة هما وحزنا؛ لأنهم لا يمتلكونها، ويفوتون اللحظات الجميلة التي تمر من أعمارهم تحسرا عليها! وأستغرب كيف يفوت الإنسان متعة شربه لماء بارد.. تناوله حبة عنب.. رؤية غيمة في السماء فوق رأسه.. وردة بيضاء على الطريق.. ابتسامة طفلة.. ومضغ قضمة من خبز.. وأشياء كثيرة بسيطة في حياتنا، لو تمعنا النظر فيها قليلا، لوجدنا الجمال يحفنا بها وحياتنا دونها لا تُعاش!

إن إحساسنا بهذه التفاصيل البسيطة هو الإحساس بالحياة، وحين تموت فينا التفاصيل تموت فينا الحياة.. ومع ذلك ليس هناك أسوأ من موت الضمير الإنساني! حين يموت هذا الكائن غير المرئي فينا، فإنه هو الخسارة الكبرى فعلا!؛ لأنه يحول الإنسان إلى مجرد حيوان تحكمه غرائزه!، وحين ننظر للفساد من حولنا وقضاياه التي لا تنتهي حتى بات لدينا هيئة وطنية لمكافحته، نعرف جيدا كم هم عدد الموتى الذين تعفنوا بيننا؛ حتى روائحهم الكريهة باتت تزكم أنوفنا، وهم يحسبون أنهم أحياء!.