"الكتابة هي بنتُ الشرط الإنساني ولكن استحقاقها الإبداعي هو في مفارقة هذا الشرط". يحدّد هذا القول مصدر الكتابة؛ البيئة الاجتماعية الحاضنة وما يعتمل فيها من الظروف المشكّلة لفضاء عام يمدّ الكاتب بأسباب الكتابة وما يحرّض على إنشاء عوالم فرديّة وجماعيّة نواتُها من تلك البيئة الاجتماعية، لكن ما بعد ذلك ينبغي أن يعود إلى الذات المبدعة بإضفاء الشرط الفني والجمالي، عبر الانفكاك عن المرجعيّة الصوريّة التسجيليّة وإعادة البناء وفق ما يقتضيه الأدب الذي هو في أحد مفاهيمه عبارة عن عمليّة استكشاف؛ عملية نزوح من العام إلى الخاص ومن الخارج إلى الداخل ومن السطح إلى العمق، حيث الأغوار التي تتفتّح عنها التجربة إذْ تتحوّل إلى شأن شخصي وذاكرة حميمية تصنع ارتباطاتها من مفارقات الساخن والبارد وما يعتلج من بينهما من أوضاع تأخذ البياض إلى عتمة التوتر الصانعة لجوهرة الإبداع.
بهذا المعنى تتحرّر الكتابة من شبهة النسخ والتداعي المحكوم بالصفحة الخارجيّة، وتمضي نحو اختبار تجربتها وعالمها الخاصّين، عندما يطلّ المبدع لا من نوافذ الآخرين ولا يستعير انفعالاتهم ويستثمرها بمجّانية تخضع لمنطق التسليع والتسويق تحت مظلّة الاستهلاك العامرة بالأوهام. تلك المظلة المغرمة بـ "الذوق الموحَّد" والزي المتشابه، حيث يقع في الأذهان أن هذا العام هو ما يشبهنا وبالتالي هو ما نريده، وعلينا الإقبال صوبه والانتهال منه.
في "شمس مؤقتة" للشاعرة سوزان عليوان، استوقفتني قصيدة تنصهر فيها التجربة بالذاكرة أمام باب مدرسة الطفولة؛ شريط مباغِت ينفجر في الداخل، فيعصف بالروح ويصعق الجسد: (البابُ المعدنيُّ الأخضر/ ذو القضبان العديدة والحارسِ الأوحد/ الذي كنّا ندخله في الصباح ركضاً والحقائبُ الصغيرة تقفزُ على ظهورنا/ مثلَ ضفادع تبعتْنا من النهر البعيد/ البابُ ـ عتبةُ الجنّة في الخروج ـ مغلقٌ على طفولتنا./ يدي تحثّني على ملامسة حديدٍ مبتل./ لا أجرؤ).
في هذه القصيدة لا نتعثّر بالاسترسال الوصفي الذي يبتعد عن الحالة الشعرية ويفقدها إشاريّتها وكثافتها. كما أنها لا تسير مع عاطفة مباشرة يستنهضها الحنين ووجعه بفيضٍ وجداني يتصادى مع المسافة الزمنية بين لحظة الطفولة ولحظة الحاضر. إنها تقف عند حدٍّ هو الباب؛ صانع الدلالات وتنسج منه كيانا واحدا يلتفّ فيه المكان والزمان وتتشكّل منه الحالة التي أرادتها الشاعرة، فاستبطنتْها وعاشتْها وكشفتْ عن اتصال وانفصال واستحالة أيضا:
البابُ ـ عتبةُ الجنّة في الخروج ـ مغلقٌ على طفولتنا.