بعد قراءتي لمقالة الدكتور محمد القنيبط "الولد المدلل" وما مر به من نحو ثلاثين سنة سابقة، عندما تولى إدارة شركة شبه حكومية وبمجلس إدارة يغلب عليه كبار البيروقراطيين، منهم رئيس في مرتبة وكيل وزارة، وعضو منتدب للشركة أطلق عليه الدكتور محمد لقب "الولد المدلل"، الذي أرسل له خطاب فصله بالـ"تلكس"، حيث كانت جريمة الدكتور الوحيدة ـ حسب ظنه ـ عدم دبلوماسيته التي عرفها لاحقا بـ"الافتقار لموهبة النفاق" الإداري لأعضاء مجلس الإدارة، ولسعادة العضو المنتدب على وجه الخصوص "إذ لم تشفع له قدرته من تحويل خسارة الشركة لأربع سنوات متتالية لربح في عام واحد فقط".

تذكرت هنا غادة صباغ التي عرّفت تصرف "الولد المدلل" للدكتور القنيبط بـ"البلطجة الوظيفية"، إذ عرفتها بمقال لها يحمل نفس العنوان بالمتكسب الذي "يريد محو الشخصيات من حوله، يريد عبودية كاملة، يريد أن يشعر أن الأمر بيده أولا وآخرا"، ولم تصف تصرف المسؤول "الوزير"، بل التمست له العذر قائلة: إن كثيرا من المسؤولين مستقيم، لكن نتيجة لضغوط العمل والتسلسل الإداري، يضع ثقته في أشخاص مقربين منه، يعطيهم مسؤوليات وثقة كبيرة وصلاحيات واسعة، لكن كثيرا منهم لا يملك ـ مع الأسف ـ مبادئ وأخلاق المهنة بإحقاق الحق والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، واحترام الأشخاص، وتقييمهم لهم على أساس الكفاءة والالتزام والانضباط والمهارات العالية، لذلك وجود موظف ذكي لديه قدرة وطاقة عاليتان ومهارات واسعة، يقلق راحة "البلطجي الوظيفي"، ويشعره بعدم الأمان؛ لخوفه من أن يبرز ويكبر ويتطور فيأخذ مكانه، ويعري فكره المجدب، ويصل إلى ما قد يضر بكيانه، إذ إن النجاح دائما يكشف الفشل، ويضع النقاط الصحيحة على حروف الواقع المفترض.

إن العنصر المشترك بين المقالين، هو ذلك الموظف المميز المتميز في عمله، ويتفوق على مرؤوسه، وبما أن هناك دوما تنافسا وصراعا بين البشر على مصادر العيش والقوة والسيطرة لتحقيق أعلى المراتب، فإن السعي لذلك ينشئ غريزة الغيرة التي غالبا ما تحدث عندما يفشل أحدهم ويتفوق الآخر، فلا تستغرب عزيزي القارئ، فالغيرة والحسد انفعالان موجودان لدى بعض الحيوانات الراقية، نشأت نتيجة التنافس والصراع على مصدر العيش. ولنكن واقعيين فالواقع يفرض علينا أن نسعى لنكون الأفضل، لذلك تحدث الغيرة بمجرد أن نفشل أو نخسر بوضوح، فالفردية والأنانية والعنصرية هي من أهم مولدات التنافس

والصراع لدى البشر، ولو عدنا للتاريخ فإن التنافس والسباق والسعي للتفوق على الآخر، هو مرجع أغلب الصراعات والحروب، ولنا في "داحس والغبراء" أكبر دليل، فالحرب التي تعد من أطول الحروب التي عاشها وخاضها العرب في الجاهلية، كانت بسبب سلب قافلة حجاج للمناذرة، تحت حماية الذبيانيين، مما سبب غضب النعمان بن المنذر وأوعز بحماية القوافل لقيس بن الزهير من عبس مقابل عطايا وشروط اشترطها ابن زهير ووافق النعمان عليها، مما سبب الغيرة لدى بنى ذبيان، فخرج حذيفة مع مستشاره وأخيه حمل بن بدر، وبعض من أتباعه لمقابلة ابن زهير، وتصادف أن كان يوم سباق للفرس. اتفق قيس وحذيفة على رهان على حراسة قوافل النعمان لمن يسبق من الفرسين.

رغم أن الغيرة ليست من الانفعالات المعروفة مثل: الخوف، الحزن، الغضب، الامتعاض، والقلق، لكنها تتركب منها جميعا، فسرها علم النفس بأنها "انفعال مركب، يجمع بين حب التملك والشعور بالغضب" كما أنها غريزة فطرية موجودة داخل أعماق النفس البشرية، فهناك من تكون لديه غيرة معقولة تحفزه وتدفعه، فتبقى كأحد المشاعر الطبيعية الموجودة لدى الإنسان.

فالغيرة كما أنها ناتج التنافس والصراع، هي أيضا مولدة لهما، فهي سيف ذو حدين، قليلون هم من يجيدون استعماله.