يستحق منا سوق العمل الاهتمام وتكرار الحديث عنه لأنه يتعلق بمشكلات مجتمعية شائكة، مثل البطالة والجريمة والعنوسة والمخدرات ومشكلات الشباب التي لا تنتهي والمعروفة لدينا جميعاً.. وأكرر هنا الحديث عن سوق العمل لتبسيط الصورة التي تحمل الحلول التي طرحتها في مقالات سابقة، والحل الجذري لسوق العمل والقضاء على البطالة يكمنان في ثلاث خطوات.. وأتحدى أن تحل مشكلة سوق العمل دون هذه الخطوات الثلاث:
الخطوة الأولى: أن نعرف بالضبط مجالات العمل في السوق السعودي بشكل علمي ونسبة احتياج السوق من كل مجال.. وفق دراسة علمية تحدد بالضبط هذه المجالات ونسب احتياج السوق لها.
الخطوة الثانية: أن نعرف بالضبط عدد العاطلين ومجالات تخصصهم ونسبة العاطلين في كل مجال، بما في ذلك العاطلون الذين لا يحملون شهادات جامعية أو غير مدربين على مجالات محددة ووضع مثل هؤلاء في تصنيف مستقل.
الخطوة الثالثة: أن نعرف بالضبط عدد الوافدين الذين يعملون في السوق بنفس تخصصات العاطلين لدينا ونسبة وجودهم في كل مجال.
هذه الخطوات الثلاث لا يمكن التكهن بها أو معرفتها عن طريق اجتماعات أو لجان أو تخمين.. لا بد من دراسة موسعة لنعرف بالضبط المجالات والأعداد والتخصصات للعاطلين والوافدين الذين يعملون في تلك المجالات.
إذا توافرت لدينا هذه المعلومات بشكل علمي عرفنا بالضبط مجالات السوق ومن الذي يحتل وظائفه وتخصصات العاطلين.. هنا نقوم بما يأتي:
أن نطلب من الشركات والمؤسسات وكافة قطاعات الأعمال أن تفرغ لنا عدداً محدداً من الوظائف ونطلب من كل مؤسسة أو شركة طلباً محدداً فيه عدد الوظائف التي يجب أن تفرغها حسب حجم ذلك القطاع والمجال الذي يجب أن تفرغ منه خلال عام واحد، ويوجه لتلك القطاعات العدد نفسه من العاطلين وفي نفس التخصص أو المجال ويطلب من القطاع خلال هذا العام تدريب الأعداد المرسلة إليه حتى إذا ما حلوا محل الوافدين الذين يتم الاستغناء عنهم يقوم الذين أحللناهم من العاطلين بالعمل بنفس المستوى الذي كان يؤديه الوافد.. ولا يقول لنا أحد إن السعودي هو أقل إمكانية أو تحمل مسؤولية أو ثباتا من الوافد.. هذا كلام غير صحيح وبالتالي غير مقبول.
وفق التجارب التي عايشتها فإن أمر الإمكانية والتحمل والثبات يتوقف على مدى وكيفية التعامل مع الموظف السعودي معنوياً ومادياً، ومدى تحفيزنا له وتشجيعنا المستمر والثناء على جهوده.. والتحطيم يؤدي إلى العكس.
يقول أحد الحكماء "لا إنجاز ولا نجاح دون مواجهة"، ولهذا لا بد من الإصرار على أن تقوم الشركات والمؤسسات بتفريغ وظائف بالأعداد والنسب التي تطلب منها.. ولا تراجع أو هوادة في ذلك.. ولا نترك القرار في الأعداد والمجالات لتلك الشركات، بل عليها فقط التنفيذ، ولا بد من الحزم في التنفيذ وفي مدة محددة.. سوق العمل لدينا كما نعرف جميعاً، يغص بملايين تصل إلى ثمانية أو تزيد من الوافدين وأتوقع ألا يزيد عدد الوظائف التي تطلب من القطاع الخاص عن مليون وظيفة.. يحل محلها مليون مواطن مدرب وفق الآلية التي ذكرتها أعلاه.. أعرف أن الأمر ليس بالبساطة التي طرحتها لكنها العملية الجراحية التي يتم بعدها بإذن الله، الشفاء الدائم..
هنا في سوق العمل لدينا شركات لا ترى السعودي بينها إلا مثل الشيبة في الرأس وهذا أمر يجب ألا يستمر.. القضاء على البطالة هدف استراتيجي لا بد من تحقيقه.. ببساطة لأن البطالة تجر إلينا مشكلات لا يمكن أن يتحملها مجتمعنا طويلاً.. مشكلات تتعلق بالأمن ومشكلات اجتماعية، ومشكلات تتعلق بمستقبل الشباب ومدى إسهامه في تطوير وطنه ومستوى ولائه له.. لا يمكن أن نستمر على هذا الحال نولول ونصيح ونعرض الحلول النظرية التي لا تؤدي إلى علاج حقيقي للمشكلة.
الخطوات الثلاث التي ذكرتها تحل مشكلة تبدل المجالات في السوق ونسب وجودها فيها.. الدراسة العلمية لمجالات العمل في السوق ستكشف لنا بشكل علمي المجالات والنسب، لأن النسب تتغير بشكل سريع وفق سرعة العصر الذي نعيشه.. أنا لست من يقول هذا الكلام، تقوله الدراسات في العالم المتقدم الذي بدأ يتخلى عن مجالات تخصصية في الجامعات ويحل محلها مجالات جديدة يطلبها سوق العمل في العصر الرقمي، والذين يعملون وقد تخرجوا منذ زمن طويل أو قصير يتم استدعاؤهم بشكل إجباري ليتم تدريبهم على ما أسموه "المهارات العليا" التي أصبحت سمات مجالات جديدة في السوق اليوم ويتم استدعاؤهم بمئات الآلاف في كل دفعة حتى يتم تدريبهم على مهارات المجالات الجديدة في سوق العمل بالسرعة الممكنة.
إنني أؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن مشكلة البطالة لدينا لا يمكن حلها دون هذه الخطوات الثلاث.. يتعاون فيها القطاع الخاص بدرجة كبيرة مع الدولة، الواقع يقول لنا إن القطاع الخاص ما زال متمسكاً بأعداد كبيرة من الوافدين إذا استثنينا البنوك.. ولو أن البنوك ليس لديها مساهمات مجتمعية تذكر - وسنعود لهذا الموضوع لاحقاً - مشروع الملك عبدالله للابتعاث سيضخ أعداداً كبيرة من الخريجين من جامعات خارجية وفي كل التخصصات.. هم فقط يحتاجون إلى تدريب معقول على طبيعة العمل الذي سيقدمون عليه، والقطاع الخاص الذي يعمل في البلاد لا بد أن يخدم البلاد التي تتشكل منها منافعه ومكاسبه وثرواته، ولهذا لن يكون تفريغ الوظائف التي تطلب منه قسوة عليه.. إنه واجب لا بد أن يقوم به، واجب سيكون له تأثير كبير على استقرار مجتمعنا وأفراده ونموهم وازدهارهم.. فهل نحن جادون في حل المشكلة؟ إذن هذا هو الحل.. ولا أدري حلاً آخر غيره، والدليل والإثبات الذي نحتكم إليه أن مشكلة البطالة ستستمر.. وتبعاتها السلبية على أمتنا واستقرارنا وأمننا، ستستمر إذا لم نأخذ بهذه الخطوات الثلاث.. والمستقبل هو الحكم.