إلى المسجد المجاور لسكناي، استقطبني خطيبه الفاضل المحدث المجدد، فلزمته من أول خطبة، حتى صرت أوثر نفسي بحضوره -ولو كنت بعيدا- لأنني أخرج من كل جمعة بقبس من هدى ينير طريقي، ودرس ينفعني في ديني ودنياي معاً، وأجوبة ترد على أسئلة ربما دارت طويلاً في خاطري، دون بلوغي التثبت من أمرها، إلا من خطبة الجمعة هذه، وخطيبها الذي يتلمس حاجات المجتمع وقضاياه في اللحظة الراهنة، وأظنه يعكف طوال الأسبوع في البحث الدقيق للوصول إلى الرؤى البصيرة في كل ما يتناول على منبره من قضايا، ليفعّل بذلك دور المنبر الحقيقي في حياة المسلمين، باعتباره -كما يقول الأمير خالد الفيصل- الخطاب (الوحيد) الذي تتاح له هذه الفرصة الأسبوعية دون مقاطعة تفقد الهيبة وتخلخل سلسلة إدراك المتلقي لفصول القضية المطروحة.
في الجمعة قبل الفائتة، تحدث الشيخ سعود السحيمي بأن الله قد جعل في كل أمة إماماً يتحمل المسؤوليات والأعباء والتبعات، يُتقى به ويُدفع به الأعداء والأخطار، يقيم العدل ويدفع الظلم وينظر في المصالح، وأنه -جل وعلا- أمر بالجماعة، وحث على السمع والطاعة، ونهى عن الفرقة والاختلاف، وأن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله ما بعث سَريّة، إلا أمّر عليها واحداً منهم، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن الشقاق، وأن رحمة الله قد جمعت قلوب المؤمنين وألَّفت بينها، فلا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، لأنهم معتصمون بحبل الله، متمسكون بكتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يشد أزرهم هذا الترابط والتعاون، ويجمعهم ويحصنهم السمع والطاعة لولاة أمورهم.
فمتى تمسكت الأمة بكتاب ربها، وعضت على سنة نبيها، والتفت حول ولي أمرها فهي في حمى ربها وأمانه، لأنها امتثلت لأمره -جل وعلا- وطبقت منظومة الرشد والرشاد في قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)، حتى أن رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، قد حذر من الفرقة، والخروج عن طاعة ولي الأمر، ففي الحديث المتفق عليه عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت، إلا مات ميتة جاهلية)، فالسمع والطاعة لولي الأمر من أصول الإسلام يجب التمسك بهما في المنشط والمكره، ولا يتوقفان على الرغبة والهوى ولا على المحبة والرضا.
هكذا يحدد الشيخ مسؤولية طرفي البيعة الشرعية قِبَل الآخر، فولي الأمر إنما يتلقى البيعة من عامة المسلمين، على مسؤوليات جسام في إدارته لشؤونهم، رأوه جديراً بها حين بايعوه.
وهكذا قدّم الشيخ الجليل -في بساطة ودلالة معاً- الأنموذج الإلهي لعلاقة الراعي بالرعية، ولو أن أساطين (الخريف) العربي قد فطنوا -حكاما ومحكومين- إلى هذه المثالية في المسؤولية المشتركة، وتحمل كل منهم نفقتها، لكنا في ربيع عربي حقيقي، كما هو في هذه الدولة التي قامت ولا تزال على هذا الدرب، فولي الأمر يقودها إلى الأعالي في دنيا العصر في حمى الدستور السماوي والسنة المحمدية، ويرفع إصبعه في وجه عماله على خدمات المواطنين -في جلسة ميزانية الخير- أن يخافوا الله في أماناتهم، وأن يعاملوا كل مواطن كما يعاملونه هو شخصياً -يحفظه الله- فيضرب المثل الأعلى لولي الأمر الذي تتحتم طاعته.
وها هم الناس جميعاً يوفونه حقه من الحب والاحترام، مقروناً بالشكر على كل ما فعل في عصره الزاهر من معجزات، لا في السعودية فحسب، بل وفي كل بلدان العالم، خاصة تلك التي غمرها ملك الإنسانية بالعون الإنساني في أزماتها دون تمييز بين البشر.
أما العجب العجاب فهو ذلك الفصيل الهامشي الذي يحاول شرخ هذه المرآة الصافية الرائعة الراقية على الوجهين، ومن ذلك ما حكى لي من أثق في روايته أنه كان في حوار مع أحد أبنائنا الذين تعبت عليهم الدولة حتى حصلوا على أعلى الشهادات، وتبوأوا أرقى الوظائف، فإذا به ينكر الجميل جاحداً دور هذه الدولة في الدفاع عن الإسلام، ناكراً مواقفها منذ قيام الدولة الأولى في عهد الإمام محمد بن سعود حتى يومنا الحاضر، وموقفه مع شيخ الدعوة محمد بن عبدالوهاب، ولولا هذه المساندة من الإمام للشيخ لما سمع أحد دعوته آنذاك.
أسأل الله أن يحفظ علينا ديننا وأمتنا واستقرارنا ويكفينا شر الحاسدين والمغرضين ويرزقنا شكر النعمة.